طنجة وبرشلونة.. شراكة متجددة وآفاق واعدة استعداداً لكأس العالم 2030    الرجاء الرياضي يعين التونسي لسعد جردة الشابي مدربا جديدا للفريق    أستاذ مغربي في مجال الذكاء الاصطناعي يحظى بتتويج بجامعة نيويورك    اجتماع موسع بعمالة إقليم الجديدة لتتبع تموين الأسواق والأسعار (بلاغ)    عقبات تواجه "مشروع ترامب" بشأن غزة.. التمسك بالأرض ومعارضة العرب    تعيينات أمنية في مناصب المسؤولية    مسؤولون وجامعيون ينعون لطيفة الكندوز رئيسة "جمعية المؤرخين المغاربة"    بنعلي تبرز تحديات الماء والطاقة    حادثة سير تودي بحياة امرأة وتتسبب في عدة إصابات    استهجان واسع لتصريحات ترامب بشأن غزة والفلسطينيين    عمالة إقليم الجديدة تعقد اجتماعا موسعا للاستعداد لشهر رمضان    إطلاق سراح بدر هاري بعد اعتقاله على خلفية شكاية من طليقته    إنتاج الصيد البحري يتجاوز 1.42 مليون طن والصادرات تفوق 31 مليار درهم (رئاسة الحكومة)    الرجاء يعين التونسي لسعد جردة الشابي مدربا جديدا للفريق    كأس تركيا.. النصيري يسجل ثنائية في مرمى أرضوم سبور (5-0)        مجلس النواب يصادق بالإجماع على مشروع قانون يتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل    حجزعدد من الدراجات النارية بسبب القيادة الاستعراضية الخطيرة    الجيش الملكي يعلن انفصاله عن مدربه فيلود ويعين مساعده مدربا مؤقتا    رسميًا.. الجيش الملكي يفسخ عقد مدربه الفرنسي فيلود    السكوري: جرمنا طرد وتنقيل المضربين .. والإضراب العام من حق النقابات    أحكام قضائية مشددة في قضية "أنستالينغو" في تونس.. تفاصيل الأحكام وأبرز المدانين    إطلاق نار في بروكسيل.. المهاجمون لا يزالون في حالة فرار (فيديو)    التاريخ والذاكرة.. عنف التحول ومخاضات التشكل    مؤشر "مازي" يسجل تراجعا في تداولات بورصة الدار البيضاء    تهريب المخدرات يطيح بثلاثة أشخاص    الإضراب يشل النقل الحضري بوجدة    ستيني يُنهي حياته داخل منزله في مرتيل    اختفاء طفلين في طريقهما إلى سبتة من مدينة العرائش والمصالح الأمنية تواصل البحث    الراشيدي: الثقة في المؤسسات تتراجع.. ونصف المغاربة يريدون مكافحة الفساد    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يرحب باعتماد اللجنة العربية لحقوق الإنسان لتوصيات تقدم بها المغرب    وفاة المغنية الشعبية غيثة الغرابي    نقابات بالناظور تستجيب للإضراب الوطني احتجاجا على حكومة أخنوش    غياب اللقاح بمركز باستور بطنجة يُثير استياء المعتمرين    بلال الخنوس يتوج كأفضل موهبة لعام 2024    أخنوش يستعرض المؤشرات الاقتصادية والمالية للمغرب ويؤكد مواصلة الإصلاحات    مجموعة إسبانية تعتزم افتتاح منتجع فاخر في طنجة    جامعة عبد المالك السعدي تعزز البحث العلمي في مجال القنب الهندي باتفاقية جديدة مع الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المرتبطة بالنبتة    أجراس الحداثة البعدية في مواجهة منابر الحداثة    تأجيل أم إلغاء حفل حجيب بطنجة؟ والشركة المنظمة تواجه اتهامات بالنصب    كعكتي المفضلة .. فيلم يثير غضب نظام المرشد في إيران    منصة "واتساب" تعلن عن تحديث جديد لتشات جي بي تي داخل تطبيقها    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ماذا يعرف الأطباء عن أعراض وعلاج الاحتراق النفسي؟    بلقاسمي: ملعب الرباط سيدخل كتاب " غينيس"    الرباط.. العرض ما قبل الأول لفيلم "الوصايا" لسناء عكرود    أسعار الذهب ترتفع إلى مستوى تاريخي جديد    سياسات ترامب الحمائية هل ستؤدي إلى حرب تجارية جديدة؟    الولايات المتحدة.. مجلس الشيوخ يؤكد تعيين بام بوندي في منصب وزيرة العدل    ترامب يوقع على أمر تنفيذي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان    خبراء يؤكدون أن جرعة واحدة من لقاح "بوحمرون" لا تكفي للحماية    الصحة العالمية : إطلاق أول تجربة لقاح ضد إيبولا في أوغندا    الرباط: تنصيب الأعضاء السبعة الجدد بأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واقع عربي تكذبه صفاته!
نشر في المساء يوم 28 - 09 - 2010

إذا صدقنا ما تقوله صفات الواقع العربي، كما تنشر بألف لسان في إعلام الضالعين في إقامته، كان علينا أن نصدق أيضا آخر أكاذيب صحافتهم، التي تزعم أن شعوبهم تحتل المرتبة الأولى في السعادة بين شعوب العالم، فهي أسعد الشعوب قاطبة.
أما إذا ما نظرنا إلى الواقع، فإننا نجده خلوا من أي نوع من أنواع السعادة، إلا إذا كان للسعادة معنى الإفقار والاستبعاد والكبت والتجهيل والإفساد! هنا، يكذب الواقع صفاته المنمقة، وتاليا الكاذبة. إذا ما تفحصنا، على سبيل المثال لا الحصر، العلاقة بين واقع الوطن والإنسان والحب، وبين ما يقال عنها ويلصق بها من صفات، وجدنا تناقضا شبه تام بين الواقع وصفاته.
لو أخذنا، مثلا، هذا الوطن الواقعي الذي نعيش فيه، لوجدناه مختلفا كل الاختلاف وغريبا كل الغربة عن الألفاظ التي تصفه، فقد صار الوطن الواقعي مجرد مصلحة وترجم إلى مكاسب ومغانم جردته، بصورة متزايدة، من قيمته المعنوية، وكانت إلى الأمس القريب تشد النفوس إليه وتجمعهم حوله، فتجعل حياة المواطن جزءا من حياته، وموته في سبيله شرفا يطمح إليه المخلص والمضحي من بناته وأبنائه. أما اليوم، فقد تقلص هذا الوطن المعنوي إلى حد التلاشي، وتعاظم عدد من يؤثرون مصلحتهم على مصلحته، حتى صار من يضحي في سبيل وطنه يعد حمارا، ومن يسرقه وينهب خيراته يعتبر شاطرا يعرف كيف يدبر نفسه، وتسابق الخلق إلى نتف ريش وطنهم وتكبير حصصهم منه، فهو غنائم يتقاسمها أصحاب الحول والطول الذين، إن حدثهم أحد عن الوطن وذكرهم بضرورة الحرص عليه، وحذرهم من نتائج أفاعيلهم فيه، نظروا إليه باستغراب وازدراء، كأنهم يسألونه: عن أي وطن تتحدث، أعن وطن الفقراء الذي لا يعنينا أمره، أم عن الوطن الذي صار لنا وحدنا، فحولناه إلى شيء ملموس ومفيد جعل منه حسابات مصرفية مربحة، وعقارات، ومزارع، وطائرات، وسفنا، وسيارات... فعن أي وطن تتحدث أيها الشقي المسكين؟
يعتبر الإنسان الواقعي، الذي يشقى كثيرا للحصول على لقمته، نقيض إنسان اللغة الكلامي الذي يزعم أنه يعيش في النعيم وأنه أسعد إنسان في العالم. مع التمايز بين البشر، لم يعد هناك مفهوم جامع للإنسان، وانقسم الناس إلى فئات وجماعات لا تشبه بعضها، تتصارع بحقد في إطار روابط غدت شكلية صرفة، كالعيش في بلد واحد أو أمكنة متجاورة، والعمل في دوائر حكومية أو خاصة، والسكن في مدن وقرى واحدة، والسير في الشوارع نفسها، والتخاطب باللغة ذاتها... إلخ. لا شك في أن عندنا أفرادا هم بين الأسعد في العالم. إذا كانت الصحافة تعني هؤلاء، فهي صادقة بلا ريب، غير أن هؤلاء ليسوا غير قبضة قليلة من مواطنينا، وهم لا يمثلون الإنسان عندنا، وإنما يشبهون الإنسان غير العربي: إنسان أمريكا وفرنسا وسويسرا والسويد... الذي يتمتع بمستوى مرتفع من العيش ولا يرضخ لعبودية الحاجة، على عكس إنساننا العادي الذي يمثل أغلبية مواطنينا ويعاني الأمرين من أجل الحصول على الحد الأدنى من حاجات لا ينفك نوعها يتردى وثمنها يرتفع وفرص الحصول عليها تتضاءل. تقول الإحصاءات إن في مصر فائضا سكانيا يبلغ 20 إلى 25 مليون إنسان، وفي سورية قرابة خمسة ملايين، أي أن هناك خمسة وعشرين مليون إنسان، وهنا خمسة ملايين، ما كان يجب أن يولدوا أصلا، وليس لديهم فرصة للحصول على أي شيء، عملا كان أم رزقا أم خدمات أم تعليما أم سكنا أم أرضا... إلخ. مع ذلك، لا تخجل اللغة من هذا الإنسان، بل تعتبره أسعد إنسان في العالم!
نصل الآن إلى الحب، تلك العاطفة المشبوبة التي تعتبرها اللغة غرض ذاتها، فهي منزهة عن أي نفع أو غرض. هذه العاطفة لم تعد تعني، في الواقع، ما تقوله عنها الألفاظ المنمقة التي يستخدمها مجتمع غدت معاييره وأنماط علاقاته وعيشه استهلاكية، يقاس فيه كل شيء بمقياس مادي صرف، فلا حب ولا عاطفة ولا من يحبون ويعطفون، بل بيوت وسيارات ومجوهرات ورحلات وأزياء... وعقود زواج تشبه عقود الإيجار والرهن، كل شيء فيها مدفوع الأجر: من السلام باليد إلى المشاركة في الفراش.
صحيح أن من يفعلون ذلك أقلية، إلا أنهم موجودون في مجتمع عرف ذات عصر أجمل أمثلة الحب العذري، علمّ أوربيي العصر الوسيط معنى الحب واحترام المرأة وصدق العاطفة والفروسية، وجعل الحب غاية الغايات، فلم يعترف بأية غاية خارجها. لا أحد يسأل اليوم عن الحب، فإن سأل لم يعتبره كافيا لإقامة أسرة أو لنسج علاقة، وتتركز أعين وألسن خلق كثير على ثروة الرجل والمرأة، ودخلهما ونوع سيارتيهما، وكم سيرث كل منهما ومتى...، فإن وجد الرجل أن المرأة لا تستوفي شروط الربح، واعتبر الزواج منها صفقة خاسرة، تزوجها إلى حين، ليستمتع بها، أو أقلع عن الزواج منها. وإذا وجدت الفتاة الرجل غير قادر على تلبية متطلباتها، قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، رفضته مهما ارتقت صفاته وحسنت أخلاقه وبلغ علمه.
تذهب اللغة التي تصف واقعنا في اتجاه، ويذهب الواقع في اتجاه آخر، يكذب الصفات التي تطلق عليه. ويسخر الناس العاديون من صفات الواقع الجميلة والشاعرية، التي تنهمر عليهم كالمطر، لكنها لا تلطف قسوته أو تحد من انعدام شاعريته، وتضيف إلى بؤسه الفعلي والعام بؤس لغة يكذبها هو كما تكذبها مبالغاتها الفجة. ينطبق هذا على كل شيء: من الوطن إلى العمل إلى الحب إلى الإنسان إلى الصديق والعدو... أما نتيجته فهي عزوف الناس عن تصديق اللغة التي تصفه وانعدام الثقة في من يستخدمونها، لأن الواقع لا يصير جميلا بكلامهم وحده.
يعيش من هم فوق في عالم كلماتهم الجميل، ويعيش من هم تحت في واقعهم المرير، الذي لا تجمله أوصافه. وبقدر ما يبالغ من هم فوق في تجميل واقع من هم تحت بالكلام، يبتعد هؤلاء عنهم ويصفونهم بلغة تخلو من كلمات جميلة أو مهذبة، أو يتعلمون الصمت.
ليس تجميل الواقع بكلمات تكذبها صفاته بالأمر الجديد، فقد لجأت إليه الحكومات دوما، وخاصة خلال أزماتها. حين يكون الواقع سيئا وتعجز الحكومات عن تحسينه بالأفعال، فإنها تحسنه بالأقوال: الاسم السري للأكاذيب. المشكلة عندنا أن عجز الحكومات صار دائما، وأنها لا تعمل للتخلص منه، وإنما تكتفي بتحسينه عبر كلمات تبالغ في تزيينه من جهة، وطمس حقائقه من جهة مقابلة، متجاهلة أن جماليات لغة المبالغة تفشل دائما في ستر حقيقتها ككذب صرف. بقول آخر: إذا استخدم غيرنا لغة يكذبها الواقع خلال أزمة تفصل بين وضعين طبيعيين، فإننا نستخدمها في جميع الأحوال والأزمنة، فلا عجب إن انقلبت من علاج متوهم لأزمتنا الدائمة إلى مصدر خطر علينا، يماثل في شدته أي مصدر آخر نواجهه. يكذب الواقع اللغة الإيديولوجية التي تصفه، وتحول بيننا وبين إصلاحه، في حين تفتك أمراض كثيرة بنا، على رأسها مرض وصف واقعنا على غير حقيقته... المحزنة
جدا.
كاتب وسياسي من سورية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.