إذا صدقنا ما تقوله صفات الواقع العربي، كما تنشر بألف لسان في إعلام الضالعين في إقامته، كان علينا أن نصدق أيضا آخر أكاذيب صحافتهم، التي تزعم أن شعوبهم تحتل المرتبة الأولى في السعادة بين شعوب العالم، فهي أسعد الشعوب قاطبة. أما إذا ما نظرنا إلى الواقع، فإننا نجده خلوا من أي نوع من أنواع السعادة، إلا إذا كان للسعادة معنى الإفقار والاستبعاد والكبت والتجهيل والإفساد! هنا، يكذب الواقع صفاته المنمقة، وتاليا الكاذبة. إذا ما تفحصنا، على سبيل المثال لا الحصر، العلاقة بين واقع الوطن والإنسان والحب، وبين ما يقال عنها ويلصق بها من صفات، وجدنا تناقضا شبه تام بين الواقع وصفاته. لو أخذنا، مثلا، هذا الوطن الواقعي الذي نعيش فيه، لوجدناه مختلفا كل الاختلاف وغريبا كل الغربة عن الألفاظ التي تصفه، فقد صار الوطن الواقعي مجرد مصلحة وترجم إلى مكاسب ومغانم جردته، بصورة متزايدة، من قيمته المعنوية، وكانت إلى الأمس القريب تشد النفوس إليه وتجمعهم حوله، فتجعل حياة المواطن جزءا من حياته، وموته في سبيله شرفا يطمح إليه المخلص والمضحي من بناته وأبنائه. أما اليوم، فقد تقلص هذا الوطن المعنوي إلى حد التلاشي، وتعاظم عدد من يؤثرون مصلحتهم على مصلحته، حتى صار من يضحي في سبيل وطنه يعد حمارا، ومن يسرقه وينهب خيراته يعتبر شاطرا يعرف كيف يدبر نفسه، وتسابق الخلق إلى نتف ريش وطنهم وتكبير حصصهم منه، فهو غنائم يتقاسمها أصحاب الحول والطول الذين، إن حدثهم أحد عن الوطن وذكرهم بضرورة الحرص عليه، وحذرهم من نتائج أفاعيلهم فيه، نظروا إليه باستغراب وازدراء، كأنهم يسألونه: عن أي وطن تتحدث، أعن وطن الفقراء الذي لا يعنينا أمره، أم عن الوطن الذي صار لنا وحدنا، فحولناه إلى شيء ملموس ومفيد جعل منه حسابات مصرفية مربحة، وعقارات، ومزارع، وطائرات، وسفنا، وسيارات... فعن أي وطن تتحدث أيها الشقي المسكين؟ يعتبر الإنسان الواقعي، الذي يشقى كثيرا للحصول على لقمته، نقيض إنسان اللغة الكلامي الذي يزعم أنه يعيش في النعيم وأنه أسعد إنسان في العالم. مع التمايز بين البشر، لم يعد هناك مفهوم جامع للإنسان، وانقسم الناس إلى فئات وجماعات لا تشبه بعضها، تتصارع بحقد في إطار روابط غدت شكلية صرفة، كالعيش في بلد واحد أو أمكنة متجاورة، والعمل في دوائر حكومية أو خاصة، والسكن في مدن وقرى واحدة، والسير في الشوارع نفسها، والتخاطب باللغة ذاتها... إلخ. لا شك في أن عندنا أفرادا هم بين الأسعد في العالم. إذا كانت الصحافة تعني هؤلاء، فهي صادقة بلا ريب، غير أن هؤلاء ليسوا غير قبضة قليلة من مواطنينا، وهم لا يمثلون الإنسان عندنا، وإنما يشبهون الإنسان غير العربي: إنسان أمريكا وفرنسا وسويسرا والسويد... الذي يتمتع بمستوى مرتفع من العيش ولا يرضخ لعبودية الحاجة، على عكس إنساننا العادي الذي يمثل أغلبية مواطنينا ويعاني الأمرين من أجل الحصول على الحد الأدنى من حاجات لا ينفك نوعها يتردى وثمنها يرتفع وفرص الحصول عليها تتضاءل. تقول الإحصاءات إن في مصر فائضا سكانيا يبلغ 20 إلى 25 مليون إنسان، وفي سورية قرابة خمسة ملايين، أي أن هناك خمسة وعشرين مليون إنسان، وهنا خمسة ملايين، ما كان يجب أن يولدوا أصلا، وليس لديهم فرصة للحصول على أي شيء، عملا كان أم رزقا أم خدمات أم تعليما أم سكنا أم أرضا... إلخ. مع ذلك، لا تخجل اللغة من هذا الإنسان، بل تعتبره أسعد إنسان في العالم! نصل الآن إلى الحب، تلك العاطفة المشبوبة التي تعتبرها اللغة غرض ذاتها، فهي منزهة عن أي نفع أو غرض. هذه العاطفة لم تعد تعني، في الواقع، ما تقوله عنها الألفاظ المنمقة التي يستخدمها مجتمع غدت معاييره وأنماط علاقاته وعيشه استهلاكية، يقاس فيه كل شيء بمقياس مادي صرف، فلا حب ولا عاطفة ولا من يحبون ويعطفون، بل بيوت وسيارات ومجوهرات ورحلات وأزياء... وعقود زواج تشبه عقود الإيجار والرهن، كل شيء فيها مدفوع الأجر: من السلام باليد إلى المشاركة في الفراش. صحيح أن من يفعلون ذلك أقلية، إلا أنهم موجودون في مجتمع عرف ذات عصر أجمل أمثلة الحب العذري، علمّ أوربيي العصر الوسيط معنى الحب واحترام المرأة وصدق العاطفة والفروسية، وجعل الحب غاية الغايات، فلم يعترف بأية غاية خارجها. لا أحد يسأل اليوم عن الحب، فإن سأل لم يعتبره كافيا لإقامة أسرة أو لنسج علاقة، وتتركز أعين وألسن خلق كثير على ثروة الرجل والمرأة، ودخلهما ونوع سيارتيهما، وكم سيرث كل منهما ومتى...، فإن وجد الرجل أن المرأة لا تستوفي شروط الربح، واعتبر الزواج منها صفقة خاسرة، تزوجها إلى حين، ليستمتع بها، أو أقلع عن الزواج منها. وإذا وجدت الفتاة الرجل غير قادر على تلبية متطلباتها، قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، رفضته مهما ارتقت صفاته وحسنت أخلاقه وبلغ علمه. تذهب اللغة التي تصف واقعنا في اتجاه، ويذهب الواقع في اتجاه آخر، يكذب الصفات التي تطلق عليه. ويسخر الناس العاديون من صفات الواقع الجميلة والشاعرية، التي تنهمر عليهم كالمطر، لكنها لا تلطف قسوته أو تحد من انعدام شاعريته، وتضيف إلى بؤسه الفعلي والعام بؤس لغة يكذبها هو كما تكذبها مبالغاتها الفجة. ينطبق هذا على كل شيء: من الوطن إلى العمل إلى الحب إلى الإنسان إلى الصديق والعدو... أما نتيجته فهي عزوف الناس عن تصديق اللغة التي تصفه وانعدام الثقة في من يستخدمونها، لأن الواقع لا يصير جميلا بكلامهم وحده. يعيش من هم فوق في عالم كلماتهم الجميل، ويعيش من هم تحت في واقعهم المرير، الذي لا تجمله أوصافه. وبقدر ما يبالغ من هم فوق في تجميل واقع من هم تحت بالكلام، يبتعد هؤلاء عنهم ويصفونهم بلغة تخلو من كلمات جميلة أو مهذبة، أو يتعلمون الصمت. ليس تجميل الواقع بكلمات تكذبها صفاته بالأمر الجديد، فقد لجأت إليه الحكومات دوما، وخاصة خلال أزماتها. حين يكون الواقع سيئا وتعجز الحكومات عن تحسينه بالأفعال، فإنها تحسنه بالأقوال: الاسم السري للأكاذيب. المشكلة عندنا أن عجز الحكومات صار دائما، وأنها لا تعمل للتخلص منه، وإنما تكتفي بتحسينه عبر كلمات تبالغ في تزيينه من جهة، وطمس حقائقه من جهة مقابلة، متجاهلة أن جماليات لغة المبالغة تفشل دائما في ستر حقيقتها ككذب صرف. بقول آخر: إذا استخدم غيرنا لغة يكذبها الواقع خلال أزمة تفصل بين وضعين طبيعيين، فإننا نستخدمها في جميع الأحوال والأزمنة، فلا عجب إن انقلبت من علاج متوهم لأزمتنا الدائمة إلى مصدر خطر علينا، يماثل في شدته أي مصدر آخر نواجهه. يكذب الواقع اللغة الإيديولوجية التي تصفه، وتحول بيننا وبين إصلاحه، في حين تفتك أمراض كثيرة بنا، على رأسها مرض وصف واقعنا على غير حقيقته... المحزنة جدا. كاتب وسياسي من سورية