ما إن ينتهي فصلٍ من ملحمة «غْرنيكا» الفلسطينية إلاَّ ويبدأ فصل جديد أكثر دموية وإجراما وتعقيداً، رغم أنَّ نقط التقاطع تتشابه على مستويات عدة، ففي حرب فلسطين الأولى قيل إن الجيوش العربية تسلمت أسلحة فاسدة من طرف قادة العرب، من أجل مقاتلة كيان صهيوني كان في متناول السلاح العربي لو حَسُنَت النوايا، ومنذ ذلك الوقت توالت الانتكاسات والنكبات ودعاوى الاستسلام، إلى درجة أن بعض العرب أعربوا علانية وبوجههم «أحمر» عن أمنيتهم «الغالية» في أن تصبح إسرائيل عضوا في جامعة الدول العربية، ولكن الذي حصل هو أن بعض هذه «الأنظمة»، هو الذي أصبح عضوا في نادي إسرائيل، لقمع شعوب المنطقة والقضاء على كل أنواع المقاومة وتحولت الجامعة العربية إلى مَانِعَةٍ لتطلعات الشعوب العربية من أجل الحرية والديمقراطية. وفعلاً حقّقَتْ بعض الأنظمة العربية إنجازا تاريخيا» على مشارف هذه السنة «المباركة»، حيث أصبح القرار الإسرائيلي- الأمريكي قرارا عربيا خالصا. وإذا كانت إسرائيل قد شكرت جورج بوش على حربه ضد العراق والتي تمت بسلاح أمريكي وتمويل عربي، فإننا لن نندهش حين سيشكر بعض العرب إسرائيل على حرب الإبادة المعلنة ضد فلسطينييغزة، وهي حربُ بدأت في الواقع منذ أكثر من نصف قرن واستهدفت الشعب الفلسطيني بكل مشاربه وتوجهاته ومنظماته وجبهاته، مهما كانت ألوانها المذهبية والإيديولوجية حمراء أو صفراء أو خضراء.. أو حتى بدون لون يُذكر، فالرصاص الإسرائيلي يستهدف الفلسطيني من المهد إلى اللحد، كما استهدف في السابق ثقافته وحضارته التي تم السطو عليها، فحتّى الموسيقى والطرز والطبخ تحتلها إسرائيل على اعتبار أنها «تراث يهودي» وهو دليل قاطع على أن الصهيونية وُجِدَتْ لتَفْتَرِي على الأحياء والأموات، وأن كل ما تنتجهُ من «الأفكار» يكون مَمْزوجاً بالدم الفلسطيني. وقد جاءت ردة الفعل الشعبية العربية لتظهر ما قد يكون غاب عن أذهان بعض الواهمين الذين تلاعبوا بالمقاومة الفلسطينية وركبوا على أمواجها ووظفوا تفاعلاتها وحتّى تناقضاتها من أجل تثبيتِ كراسي السلطة وأعمدة الاستبداد، وكتبوا بمداد الدم الفلسطيني صفحات «تاريخهم» المشهود والحافل بالدسائس والمؤامرات التي استهدفت الشعوب في قوتها وتماسكها وهويتها، وأصبحت الرقعة العربية عبارة عن ممالك الطوائف على الطريقة الأندلسية، بعد أن خرج الاستعمار الأوربي من النافذة العربية الضيّقة وعاد من الباب المشرع على مصراعيه، وتحول العرب إلى هدف وفئران تجارب في المختبر الأمريكي. حيث فيهم المريكان «اليانكي» الجدُد مفاهيم من قبيل «الفوضى الخلاقة» و«صراع الحضارات» والدول «المعتدلة»، وتحولت الأرض العربية إلى مَشْتَل لتوفير الأعداء الحقيقيين والافتراضيين لأمريكا الجديدة التي لا يمكن لها أن تعيش بدون أعداء، أي بدون أسواق تنعش صناعة الأسلحة وتستقبل عن طيب خاطر أو بالإكراه، أو بِهِمَا معا، البضائع التي تحمل إشارة «صنع في أمريكا» من خرداوات الأسلحة والطائرات التي لا تقتل ناموسة، إلى وجبات الأكل السريعة المبثوثة في شوارع أهم المدن العربية. ملحمة غزة أظهرت للعيان أن هناك قطيعة عميقة بين الشعوب والأنظمة في العالم العربي اليوم، حيث لم يعد المواطن البسيط قادرا على أن يميزَ بين أعداء الخارج وأعداء الدّاخل. وقد اعتبرت تلك الأنظمة أنها أفلتَت بجلدها من تبعاتِ حروب الخليج المتتالية، ومن تداعياتِ مأساة العراق، ولكن ما كلّ مرة تسلم الجرّة، (الله يلعنها جرة) إذْ إن مسلسل النجاة ليس عبارة عن متواليات رياضية لا تخضع لجدلية تاريخية متحركة دائما، فهي على العكس من ذلك قادرة على إعادة ترتيب البيت العربي، إذْ يخطئ من يعتقد أن الدماء التي سالت وستسيل في ملحمة غزةالفلسطينية ستذهب سُدى. ويمكن لعرب أمريكا أن يَسلُّوا أنفسهم ويعزّوهَا بالقول إن الدماء التي تسيل في غزة طال عمركم هي دماء «حماس» وليست دماء الشعب الفلسطيني. وهي للتذكير نفس الأطروحة المشروخة والخبيثة التي حاولت تسيبي ليفني التّرويج لها في الأسواق العربية «المعتدلة» والدولية منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة لكن هذه الخدعة لم تجدْ لها زبناء لدى شعوب الأرض قاطبة- ذلك أن هذا الدّم الذي يسيل بغزارة و«يتحمَّسُ» لنزيفه بعض العرب، هو دمنا جميعا ودم كل الشعوب التي قاومت في الماضي أو تقاوم في الظرف الراهن، انطلاقا من ألا شرعية فوقها أو بعدها.