تدشن العشرية الثانية لحكم محمد السادس بفتح ورش له علاقة بالإصلاح المؤسسي بالمغرب، وهو ورش الجهوية الموسعة. كان الملك محمد السادس يشير، بين الفينة والأخرى خلال العشرية الأولى، إلى أهمية الجهوية، وكان دائما يعتبرها خيارا استراتيجيا، وكانت هناك إشارات واضحة إلى قرب فتح هذا الورش، كما ورد في خطاب 6 نونبر 2008، وقد فتح هذا الورش بخطاب 3 يناير 2010 والذي من خلاله تم الإعلان عن تشكيل اللجنة الاستشارية للجهوية. عندما نتحدث عن هذا الورش، هناك تساؤل يفرض نفسه: هل انتقلنا من الجيل الأول من الإصلاحات إلى الجيل الثاني؟ هناك اعتقاد بأن المغرب، خلال العشرية الثانية من حكم محمد السادس، انخرط في الجيل الثاني من الإصلاحات، وهي إصلاحات ذات بعد مجالي، تندرج في إطار ما يسمى بالحكامة الترابية، ولكن هذا لا يدفع إلى القول بأن المغرب قد طوى بشكل نهائي ملف الجيل الأول من الإصلاحات، فهو سيباشر العمل في الأوراش التي فتحها في العشرية الأولى المتعلقة بالإصلاحات ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والمأمول الآن هو أن تتميز العشرية الثانية من حكم الملك محمد السادس بإرساء هذه التجربة الجديدة التي سيعرفها المغرب، تجربة الجهوية الموسعة، والتي ستحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العلاقة بين المركز والمحيط، وستدخل كذلك تعديلات على طبيعة الدولة في المغرب. الأكيد أن هذه الدولة لن تتحول إلى دولة فيدرالية وستظل دائما دولة موحدة، ولكن هذه الدولة الموحدة ستعرف تحولا على مستوى تدبير العلاقة بين المركز والمحيط بما يفيد بأن أسلوبا جديدا على مستوى توزيع الصلاحيات سيتم انتهاجه. سيستمر المغرب، إذن، في مباشرة الجيل الأول من الإصلاحات، وفي نفس الآن سيسعى إلى إرساء دعائم الجيل الثاني منها والمرتكز أساسا على الحكامة الترابية. يجب أن نميز بين الرهانات الكبرى للدولة من خلال اعتماد الجهوية الموسعة وبين أهداف هذه الجهوية. والرهانات الكبرى التي نتحدث عنها هي تلك المشار إليها في الخطاب الملكي ل3 يناير 2010. راهنا، ينظر إلى الجهوية الموسعة على كونها ستفتح المجال لتعميق الإصلاحات المؤسساتية، وتشكل أحد تجليات تحديث الدولة وتطويرها، ولتكون من بين تعبيرات الدولة العصرية التي ينشد المغرب إقامتها، فهذه رهانات كبرى. أما في ما يتعلق بالأهداف، فالخطاب الملكي، يشير إلى أهداف سياسية مرتبطة بتكريس الديمقراطية وبأهداف اقتصادية وهي إنجاز التنمية المستدامة. لا ينبغي أن نركز على هذه الرهانات الكبرى الآن ولا حتى على الأهداف، لأن كل القوى السياسية لا تختلف حولها، فلا يمكنك أن تجد في المغرب من لا يرغب في تعميق الإصلاحات المؤسساتية، ومن لا يرغب في تحديث الدولة وتطوير آليات اشتغالها، الكل يطمح إلى إقامة دولة القانون، وبالتالي على مستوى الأهداف، الكل يريد أن تتعمق تجربة الديمقراطية المحلية وأن يتمكن المغرب من رفع تحدي التنمية المستدامة. لا ينبغي أن نستبق الأحداث، لأن هذه الرهانات والأهداف مرتبطة بالكيفية التي سنطبق بها الجهوية الموسعة. بتعبير آخر، هناك ثلاثة مستويات ونحن نتحدث عن مشروع الجهوية الموسعة: المستوى الأول هو الذي دشنه خطاب 3 يناير2010، وسينتهي بتقديم اللجنة الاستشارية للجهوية تصورها إلى الملك. هذا مستوى أول يتعلق بصياغة التصور وبصياغة ما يسميه الخطاب الملكي بالنموذج المغربي، فالخطاب الملكي يتحدث عن ضرورة إبداع نموذج وطني للجهوية الموسعة، مع ضرورة أن نتمكن من وضع تصور لجهوية مغربية تراعي الخصوصيات المغربية. والمستوى الثاني هو مستوى أجرأة التصور، فلا يكفي أن نضع تصورا، بل علينا أن نعمل على تحويل هذا التصور إلى إجراءات وتدابير عملية يمكن تنزيلها على أرض الواقع. أما المستوى الثالث فهو مستوى تقييم التجربة بعد دخولها حيز التطبيق، وآنذاك سنعود إلى طرح التساؤل: إلى أي حد استطعنا، بالفعل، أن ننجح في تحقيق الأهداف المشار إليها وفي تحقيق الرهانات المتحدث عنها. لا يجب أن نستبق الأحداث، نحن لسنا الآن في مستوى تقييم التجربة الجهوية الموسعة، لأننا لازلنا لم نضعها على أرض الواقع، ولسنا في مستوى أجرأة التصور لأنه غير موجود إلى حد الآن، نحن الآن في المستوى الأول، وهو مستوى صياغة التصور. الخطاب الملكي تضمن الخطوط العريضة لهذه الجهوية التي يجب أن تعتمد في المغرب، وهناك لجنة كلفت بصياغة هذا التصور، وفق مقاربة تشاركية، من خلال الاستماع إلى الأحزاب السياسية والمهتمين بالشأن الجهوي قصد الاستفادة من آرائهم ومقترحاتهم. واللجنة ستنتهي، في متم هذه السنة، من وضع تصورها وسيعرض على الملك الذي سيعمل على إغنائه بملاحظات أو مقترحات أخرى، قبل أن ننتقل إلى مرحلة الأجرأة. وما يمكن أن نناقشه في هذه المرحلة الأولى هو مسألة صياغة التصور المطلوب تطبيقه في المغرب، وكل حديث عن الأجرأة أو عن الرهانات والأهداف هو حديث سابق لأوانه، وبمعنى آخر، فإن ما يفرض نفسه علينا الآن هو الحديث عن طبيعة هذا التصور للجهوية الموسعة التي يراد تطبيقها حاليا ببلادنا. بتعبير آخر، ما هي المعالم الكبرى التي يحددها خطاب 3 يناير 2010 لهذا التصور، مادام هذا الخطاب يشكل خارطة طريق بالنسبة إلى اللجنة الاستشارية للجهوية؟ علينا كذلك أن نستأنس بما قدمته الأحزاب السياسية من مقترحات وتصورات. وبكل تأكيد، علينا أن ننتظر إتمام اللجنة الاستشارية لأشغالها، لنعرف إلى أي حد تمثلت هذه اللجنة الاستشارية مضامين الخطاب الملكي، وإلى أي حد نجحت، من خلال صياغتها للتصور المطلوب منها، في وضع تصور لجهوية يمكن أن نعتبرها مجسدة لنموذج مغربي. علينا أولا أن نتعرف على أسباب النزول. وبتعبير آخر، ما هي الدواعي التي دفعت بالملك إلى فتح ورش الجهوية الموسعة؟ الدواعي مرتبطة، بكل تأكيد، بالاختلالات المجالية التي عرفها المغرب منذ استقلاله، حيث كان من الصعب أن نتحدث عن حكامة ترابية. المغرب المستقل، الذي عاش إكراهات سياسية واقتصادية وأمنية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان يعمل على تدبير مجاله بمنطق محدد. لا داعي للتذكير بأن الهاجس الأمني كان طاغيا، في حين أن الاعتبارات التنموية كانت إلى حد ما غائبة، وكان من الصعب في تلك المرحلة أن نتحدث عن فكر جهوي أو عن استراتيجية جهوية. لذلك، فالتجربة الأولى للجهوية في المغرب كانت محكومة بمنطق اقتصادي، وهو ما عرفه المغرب من خلال الجهات الاقتصادية سنة 1971 حينما قسم إلى سبع جهات اقتصادية. لكن هذا التقسيم لم يكن محكوما بهاجس تنموي، وكان هناك متغير دخل على الساحة السياسية ساهم في إنضاج هذه الجهوية لتتعامل الدولة معها كخيار استراتيجي، وهذا المتغير مرتبط باسترجاع الأقاليم الجنوبية. لنكن واضحين، فإن أول إشارة للملك الحسن الثاني حول الجهوية المتقدمة، والتي حدد مرجعيتها في التجربة الألمانية، كانت سنة 1984. ويجب أن نتذكر بعض المعطيات في تلك الفترة التي تدفع إلى القول بأن الجهوية الموسعة أصبحت خيارا استراتيجيا للدولة آنذاك بعد استرجاع الأقاليم الصحراوية مقتصرا على مناطق الجنوب. لقد كان هناك وعي بأن هذه الجهوية المتقدمة على النموذج الألماني الذي أشار إليه الملك الحسن الثاني يمكن أن تستفيد منها باقي جهات المملكة. ولا ننسى معطى أساسيا هو أن مسألة الجهوية، بالإحالة على النموذج الألماني، تزامنت مع تشكل حزب سياسي جديد سنة 1983 وهو حزب الاتحاد الدستوري، الذي جعل من الجهوية أحد مرتكزاته الأساسية. إن هذا المتغير المرتبط بقضية استرجاع الأقاليم الجنوبية دفع إلى تحول مهم يتمثل في كون الدولة بدأت تتعامل مع مسألة الجهوية تعاملا مغايرا، ليس فقط باعتبارها تشكل حلا لاحتواء النزاع في الأقاليم الجنوبية، ولكن كآلية ووسيلة لتدبير مجالي أفضل. وكان على المغرب طبعا أن يقضي سنوات قبل أن تتم مراجعة الدستور المغربي سنة 1992 الذي اعتبر الجهة جماعة محلية، حيث ستتم لأول مرة دسترة الجهة، وهو ما حافظ عليه دستور 1996، ومهد الطريق لإصدار قانون الجهات سنة 1997، هذا القانون الذي قسم المغرب بمقتضاه إلى 16 جهة. غير أن الجهوية المعتمدة سنة 1997 لا يمكن، بأي حال من الأحوال، اعتبارها جهوية متقدمة أو جهوية موسعة وإنما ظلت جهوية محكومة بمنطق إداري ضيق، فالشيء الجديد في عهد محمد السادس هو أن الجهوية أصبحت خيارا استراتيجيا معلنا بعدما كانت في عهد الحسن الثاني خيارا استراتيجيا مضمرا.