كان الملك الراحل يعتقد جازما أن التقليد قادر على التغلب على التحديث، وأن جذور الثقافة التقليدية الضاربة في عمق تاريخ المغرب لا يمكن أن تهزها رياح عابرة للحداثة... وعندما كانت ضغوط الداخل والخارج تشتد من حوله دافعة إياه نحو التنازل عن سلطوية حكمه وعصا سلطته، كان يعمد إلى احتواء هذه المطالب في ما يشبه الانحناء أمام العاصفة. وما إن تمر قوة الرياح حتى يرفع رأسه وكأن شيئا لم يقع... عندما قال الحسن الثاني لأحد وزراء فلاحته: «إن الأسرة العلوية حكمت هذه البلاد بالفلاحة والفقه والحرب»، كان يشير إلى أحد أهم مصادر سلطة هذه الأسرة التي وظفت «الأرض» و«الدين» ثم العنف في مواجهة أعدائها. توظيف الدين في السلطة لعبة قديمة جدا، جربها الأباطرة والملوك والقياصرة على مر تاريخ الأديان. وهذه اللعبة قائمة على أساس الارتفاع بمصدر الشرعية من الأرض إلى السماء، والهدف هو السيطرة على النفوس المؤمنة، والإفلات من المحاسبة، وإطلاق العنان للسلطة المستمدة من الإرادة الإلهية... ولم يكن من الصدف أن يصاحب صعود الديمقراطية أفول الكنائس وأنظمة الحكم الثيوقراطية، لأن الديمقراطية، التي جاءت في أعقاب الإصلاح الديني والنهضة الفكرية واتساع نفوذ طبقة جديدة (البورجوازية)، أعادت شرعية الحكم إلى البشر، وأخرجتها من يد الإكليروس والملوك الذين حكموا باسم الله وليس باسم الشعب... لم يجد الحسن الثاني من صعوبة في إعادة إحياء تراث لم ينقطع أبدا.. تراث توظيف الدين في السلطة. فالمغرب ورغم سقوطه في يد الاستعمار الفرنسي، ورغم «تحديث» بعض بنياته في الإدارة والاقتصاد والتعليم، ظلت جذوره الفكرية والسياسية تتغذى من الموروث القديم، وتبحث للجديد عن أصل في القديم، لأن الفكر المغربي لم يكن مهيأ للقطيعة ولا لاستيعاب صدمة الحداثة... وهكذا عمد الملك الراحل في البداية إلى توظيف الدين لمواجهة نفوذ خصومه في اليسار، ولهذا أدخل عبارة أمير المؤمنين في دستور 1962، وجعلها من بين صفاته إلى جانب كونه ملكا... ثم لما رأى المفعول السحري لهذا التوظيف الديني في السياسة، عمد إلى توسيع رقعة هذا التوظيف، فاسترجع الصحراء لأن أهلها بايعوا العرش العلوي وليس لأن إرادة العيش المشترك تجمع الشمال بالجنوب، وحكم البلاد بقبضة من حديد لأنه «ولي الأمر» وظل الله فوق الأرض، وليس لأنه يحظى برضى الشعب، وهدد المعارضة بإصدار فتوى دينية ضدها وليس لأنه صاحب أغلبية في مواجهة أقلية... وهكذا صارت الأمور.. الملك يفتتح البرلمان بآيات قرآنية ويختم خطابه بآية أخرى تحمل رسالة معينة. لباسه يزاوج بين العصري والتقليدي، وشخصيته مركبة بطريقة عجيبة، لا ترى تناقضا في الحديث باسم الله وباسم البشر في ذات الحين... أمام اتساع جغرافية «المقدس» في السياسة، اضمحلت مصادر التفكير العقلاني، وظلت النخب السياسية محاصرة وسط بحر يحكم فيه أمير المؤمنين الذي وضع يده على المؤسسة الدينية، وبنى لوزارة الأوقاف مقرا محاذيا للقصر، وأعاد هيكلة الحقل الديني بكل رموزه لخدمة حكمه... لكن لكل لعبة حدود، وعندما تتجاوز هذه اللعبة الحدود تنتج نقيضها. وهكذا ظهرت معارضة «دينية» على يمين أمير المؤمنين، وأصبحت الحركات الإسلامية تزايد على «المسلم الأول» في البلاد، الذي تحول من الصراع مع اليسار إلى الحرب مع الإسلاميين، وعوض أن ينتبه إلى ضرورة التخفيف من «توظيف الدين»، عمد إلى الزيادة في منسوب هذا التوظيف، ومن ثم سمح للتيارات الأخرى بالتطرف والانغلاق أكثر... الأرض منحت للعلويين الحكم على الأجساد، والفقه منحهم الحكم على الأرواح، فيما الحرب ظلت هي آخر الدواء... إلى اللقاء...