سؤال الحداثة في مغرب ما بعد الاستقلال هو سؤال متوتر، صحيح أن النظام المغربي في عهد الملك الراحل استطاع أن يستدمج بعض مفاهيم الحداثة السياسية ويعطيها خصوصية اختارت نهج التوفيقية، وهي الخطوة التي تعتبر، في المنطقة العربية على الأقل، سبقا يسعى العهد الجديد إلى استثماره اليوم، فالتاريخ يسجل للنظام المغربي في هذه المرحلة كونه السباق عربيا إلى تبني مقولات التعددية السياسية والاقتصاد الحر والبرلمان بغرفتين والاعتماد على الاستفتاءات الشعبية في ترسيم مجموعة من القوانين والتعديلات الدستورية، وهذا ما عبر عنه الملك الراحل في استعاراته الشهيرة بكون المغرب شجرة؛ جذورها في إفريقيا وغصونها في أوربا، وصحيح أيضا أن هذه المقولات خضعت لتكييف مع مقولات تنتمي إلى الخصوصية الحضارية كإمارة المؤمنين وترسيم المذهب المالكي. كل هذا صحيح، غير أن هذه الخلطة، التي يوثر البعض اعتبارها امتيازا «للخصوصية المغربية»، لم يستطع النظام آنذاك أن يخفي تناقضاتها الاقتصادية والحقوقية والسياسية والثقافية، الاقتصاد الحر/اقتصاد الريع، وزارة حقوق الإنسان/استمرار الانتهاكات، تعددية سياسية/اختراق العمل الحزبي وتوجيهه، رعاية مظاهر التغريب على الشواطئ مثلا/رعاية الزوايا.. وهذه التناقضات أصبحت عبئا ثقيلا خصوصا على المستوى الشعبي، إذ يكفي أن يتولى أصغر سياسي أو صحفي أو مثقف مهمة إظهار بعض هذه التناقضات ليصبح رجلا مشهورا وبطلا قوميا عند الشعب المقهور، مما يعني أن تناقضات النظام آنذاك هي ما صنع اليسار المغربي، قبل أن تظهر تناقضاته هو أيضا بعد التناوب. في العهد الجديد، نستطيع أن نقول إن النظام استفاد، إلى حد كبير، من خفوت قوة المعارضة المطالبة بالتحديث، لأسباب كثيرة قد يطول الحديث عنها، أهمها التأثر بالمناخ الدولي لما بعد الحرب الباردة، وبداية ظهور مقولات يسارية جديدة لما يعرف بالنظرية الثالثة، مثلها السياسي البريطاني «طوني بلير» والإسباني «فيليبي غونزليس»، إذ المهم على الساحة المغربية هو أن أغلب دعاة التحديث على عهد الملك الراحل أصبحوا في قلب المسؤولية في العهد الجديد، ولم يستثن من هذا المستجد بعض غلاة اليسار آنذاك، كالراحل بنزكري وحرزني واليزمي وعبد القادر الشاوي.. لكن ومع العودة القوية للتيارات المحافظة وتمكنها من التكيف، تنظيميا على الأقل، مع المؤسسات الحديثة الموروثة عن العهد الراحل، وقبولها بالعمل من داخل المؤسسات الدستورية في العهد الجديد، واستئناسها بشكل التنظيم الحديث المعتمد على الأجهزة الحزبية المنتخبة بدل المشيخة التقليدية القائمة على الولاء الشخصي الأعمى، كل ذلك جعلها تستفيد، إلى حد كبير، من مناخ الانفتاح المسجل في هذا العهد، فتمكنت من تحقيق إشعاع ملحوظ، حزبيا ونقابيا وجمعويا، وهذا في ظرف زمني قياسي. لنلاحظ، مثلا، أن احترام حزب العدالة والتنمية المحافظ للمنهجية الديمقراطية في انتخاب قيادته أمر لم يتحقق بهذا الوضوح عند الأحزاب الأخرى المسماة حديثة. وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات التي تصب في صالح التيارات المحافظة، فإن المشاكل التنظيمية التي تعيشها أحزاب اليسار الحكومي، المعارض سابقا، وكذا استمرار تناقضاتها في عدم قدرتها على الدفع بمشاريع الإصلاح السياسي، في الوقت الذي تقدم فيه نفسها وصية على الحداثة في المغرب، هي معطيات حولت التيارات المحافظة إلى مشكلة حقيقية بالنسبة إلى النظام من جهة، ومن جهة أخرى بالنسبة إلى نخبة قوية ونافذة في محيط القصر، استشعرت هذه الخطورة، فنتج عن هذا ردا فعل: أولا؛ تحول الرهان عن الحداثة إلى ما يشبه الاختيار الرسمي منذ الخطابات الأولى للملك محمد السادس، إذ لا يكاد يخلو خطاب ملكي من إشارات إلى «مغرب حداثي معاصر» أو ما شابه هذا، وما واكب هذا من مشاريع حافظت للمغرب على شرف السبق في العالم العربي في مجال التحديث، ثم في نفس الوقت ظهور «حزب الأصالة والمعاصرة»، وهو حزب حول رهان التحديث إلى خطاب تصادمي، ضد كل التيارات المحافظة، وللسيد الهمة تصريحات نارية في هذا الاتجاه. المشكلة الكبرى هي أن استمرار بعض التناقضات في الممارسة السياسة والاقتصادية والثقافية يدل على أن رهان التحديث كما يطرح رسميا ليس بالوضوح الذي قد يجعله فوق الحسابات السياسية للمرحلة، لأن الحداثة لم تكن قط سلاحا خطابيا لهزم وإقصاء هذا الطرف أو ذاك، بل هي خطة حياة، إنها الانتماء إلى العصر وإلى الآن،.. ليس المطلوب منا أن نصنف الناس، إن كنا حداثيين فعلا، بحسب اختياراتهم الدينية، بل الأساس هو أن نضمن لهم حق ذلك..