في الحلقة الأخيرة من برنامج «نقط على الحروف»، والتي استضافت الأستاذ بنكيران، زعيم حزب العدالة والتنمية، كضيف رئيسي، انحرف ما كان يبدو نقاشا حول الحداثة والتحديث، بين الضيف ومحاوره الأستاذ أبو القاسم من حزب الأصالة والمعاصرة، عن كل أخلاق الحوار، وسمعنا تنابزا بالألقاب وتبادلا للاتهامات، بأسلوب يعطي الدليل على أن عهد السياسي المثقف أو المثقف الملتزم ولى تاركا مكانه لعهد أصبح فيه السياسي لا يختلف، ثقافة وأسلوبا، عن أي عامي في الشارع. والملاحظة الدالة التي تثير الانتباه هي أنه بمجرد ما طرحت مسألة الحداثة والتحديث، اتجه النقاش بين المتحاورين مباشرة إلى موضوع الشذوذ الجنسي، وكأنهما مترادفان، بينما المسألة تحتاج إلى الكثير من التريث والتأصيل والبحث، ولا يمكن أن تناقش بالانطباعات كما رأينا عند الأستاذ بنكيران، تماما كما لا تناقش بالمزايدات السياسية والحزبية كما رأينا عند الأستاذ أبو القاسم، وهذا ما سنعمل على تبيانه. في مغرب اليوم، تحول الرهان على الحداثة إلى ما يشبه الاختيار الرسمي منذ الخطابات الأولى للملك محمد السادس، إذ لا يكاد يخلو خطاب ملكي من إشارات إلى «مغرب حداثي معاصر» أو ما يرادفه، وما واكب هذا من مشاريع حافظت للمغرب على شرف السبق في العالم العربي في مجال التحديث، ثم في نفس الوقت ظهور «حزب الأصالة والمعاصرة»، وهو حزب حول رهان التحديث إلى خطاب تصادمي، ضد كل التيارات المحافظة، وللسيد الهمة وباقي أتباعه تصريحات نارية في هذا الاتجاه. فإذا افترضنا جدلا أن حزب الأصالة و المعاصرة هو حزب حداثي، فإن مواقفه من قضايا الفصل بين السلط والمسألة الدينية تجعله يكرس بعض التناقضات الدالة على أن رهان التحديث كما يطرح في هذا الحزب، بل وحتى في الخطاب السياسي الرسمي، ليس بالوضوح الذي قد يجعله فوق الحسابات السياسية للمرحلة، لأن الحداثة لم تكن قط سلاحا خطابيا لهزم وإقصاء هذا الطرف أو ذاك، بل هي خطة حياة، إنها الانتماء إلى العصر وإلى الآن،.. ليس المطلوب منا أن نصنف الناس، إن كنا حداثيين فعلا، بحسب اختياراتهم الدينية، بل الأساس هو أن نضمن لهم حق ذلك.. إن الخلطة المفاهيمية، التي يوثر أتباع حزب الهمة تسميتها «الخصوصية المغربية»، لا يمكن أن تخفي تناقضات اقتصادية وحقوقية وسياسية وثقافية، الاقتصاد الحر/ اقتصاد الريع، المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان/ استمرار الانتهاكات، تعددية سياسية / اختراق العمل الحزبي وتوجيهه، رعاية مظاهر التغريب على الشواطئ مثلا / رعاية الزوايا.. وهذه التناقضات أصبحت عبئا ثقيلا، خصوصا على المستوى الشعبي، إذ أصبح مفهوم الحداثة ومشتقاته يثير ردود أفعال رافضة لمجرد أنه أضحى يستعمل استعمالات حزبية. هكذا، يتبين أن سؤال الحداثة في مغرب اليوم لا يزال سؤالا متوترا وإشكاليا، تماما كما كان عليه الحال في العقود السابقة، صحيح أن النظام المغربي في عهد الملك الراحل استطاع أن يستدمج بعض مفاهيم الحداثة السياسية ويعطيها خصوصية اختارت نهج التوفيقية، غير أن التاريخ يسجل للنظام المغربي في هذه المرحلة كونه السباق عربيا إلى تبني مقولات التعددية السياسية والاقتصاد الحر والبرلمان بغرفيتن، والاعتماد على الاستفتاءات الشعبية في ترسيم مجموعة من القوانين والتعديلات الدستورية، وهذا ما عبر عنه الملك الراحل في استعاراته الشهيرة بكون المغرب شجرة، جذورها في إفريقيا وغصونها في أوربا، غير أن هذه المقولات خضعت لتكييف مع مقولات تنتمي إلى الخصوصية الحضارية كإمارة المؤمنين وترسيم المذهب المالكي، الأمر الذي لم يخل من تناقضات يعرفها الجميع. في العهد الجديد، نستطيع أن نقول إن النظام استفاد، إلى حد كبير، من خفوت قوة المعارضة المطالبة بالتحديث، لأسباب كثيرة قد يطول الحديث عنها، أهمها التأثر بالمناخ الدولي لما بعد الحرب الباردة، وبداية ظهور مقولات يسارية جديدة لما يعرف بالنظرية الثالثة، مثلها السياسيان البريطاني «طوني بلير» والإسباني «فيليبي غونزاليس»، إذ المهم على الساحة المغربية هو أن أغلب دعاة التحديث على عهد الملك الراحل أصبحوا في قلب المسؤولية في العهد الجديد، ولم يستثن من هذا المستجد بعض غلاة اليسار آنذاك، كالراحل بنزكري وحرزني واليزمي وعبد القادر الشاوي.. لكن، العودة القوية للتيارات المحافظة وتمكنها من التكيف، تنظيميا على الأقل، مع المؤسسات الحديثة الموروثة عن العهد الراحل، وقبولها بالعمل من داخل المؤسسات الدستورية في العهد الجديد، واستئناسها بشكل التنظيم الحديث المعتمد على الأجهزة الحزبية المنتخبة بدل المشيخة التقليدية القائمة على الولاء الشخصي الأعمى، كل ذلك جعلها تستفيد، إلى حد كبير، من مناخ الانفتاح المسجل في هذا العهد، فتمكنت من تحقيق إشعاع ملحوظ، حزبيا ونقابيا وجمعويا، وهذا في ظرف زمني قياسي. لنلاحظ، مثلا، أن احترام حزب العدالة والتنمية المحافظ على المنهجية الديمقراطية في انتخاب قيادته أمر لم يتحقق بهذا الوضوح عند الأحزاب الأخرى المسماة حديثة. مقابل هذه المعطيات التي تصب في صالح التيارات المحافظة، فإن المشاكل التنظيمية التي تعيشها أحزاب اليسار الحكومي، المعارض سابقا، وكذا استمرار تناقضاتها في عدم قدرتها على الدفع بمشاريع الإصلاح السياسي، في الوقت الذي تقدم فيه نفسها وصية على الحداثة في المغرب، هي معطيات حولت التيارات المحافظة إلى مشكلة حقيقية بالنسبة إلى النظام من جهة، ومن جهة أخرى بالنسبة إلى نخبة قوية ونافذة في محيط القصر، استشعرت هذه الخطورة، فنتج عنها تحول الحداثة إلى خطة عمل حزبي صدامي، تستعمل فيه أساليب أبعد ما تكون أحيانا عن قيم الحداثة، بما هي سلوك وثقافة مدنيان.