خلف غياب الملك محمد السادس عن أشغال القمة التأسيسية للاتحاد من أجل المتوسط، التي تحتضنها باريس بحضور رؤساء دول وحكومات 43 دولة تمثل الاتحاد الأوربي وحوض المتوسط، ردود فعل متباينة في الأوساط السياسية والإعلامية العربية والأوربية، بين من رأى فيه انشغالا حثيثا بالشأن الداخلي وبالأجندة المكثفة للملك بالأقاليم الشرقية، وبين من اعتبره استياء مغربيا من المغازلة المفرطة للجزائر إلى حد تفاخر الرئيس ساركوزي بالحضور الشخصي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وحرصه على الإعلان عن ذلك شخصيا من قلب العاصمة اليابانية طوكيو بعد أن اجتمع به الاثنين الماضي على هامش قمة مجموعة الثماني للدول الصناعية الكبرى. وتغيب الملك محمد السادس وإن كان له تأثير على سير أشغال القمة، فهو لا يعني عدولا أو تراجعا عن موقف المغرب المساند للمشروع المتوسطي عبر مقاربة شمولية متعددة القطاعات ومتوازنة بين الطرفين، إذ من خلالها انضم المغرب إلى السياسة الجديدة التي أطلقها الاتحاد الأوروبي والمسماة ب«سياسة الجوار الأوروبية». فالتعاون المدعم ضمن سياسة الجوار الأوروبية يسير وفق طموحات المغرب الذي يريد تطورا شاملا للعلاقة الثنائية في إطار «الوضع المتقدم»، الذي نادى به الملك محمد السادس قبل خمس سنوات. وينظر المغرب إلى المشروع المتوسطي من خلال ثلاث زوايا أساسية لتحقيق الشراكة بين ضفتي المتوسط وهي: التفاعل بين الاتحاد من أجل المتوسط وسياسة الجوار، من أجل تحقيق التكامل بين التوجهين، على اعتبار أن الشراكة الأورومتوسطية تظل بالنسبة إلى المغرب إطارا مرجعيا، ثم تقوية التفاعل الاقتصادي عن طريق وضع إطار تعاقدي يخلق فرصا جديدة للاستثمار بدول الجنوب، ويتعلق المعطى الثالث بدعم التعاون الثقافي والإعلامي والتكنولوجي من خلال وضع آليات متجددة تقوم على احترام خصوصية كل البلدان المكونة للاتحاد. ويرفض المغرب في إطار هذا المنظور أن يبدأ التعاون وينتهي في مجالات لا تخرج عن محاربة الإرهاب والهجرة السرية والمخدرات، وهي مواضيع تشكل الشاغل لدول الجنوب وتسعى من خلال الاتحاد إلى تطويقها بما يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية. ويعول المغرب على الأوربيين لدعم المبادرة المغربية للتنمية البشرية لكون مجالها الطبيعي يوجد ضمن الشراكة الأورومتوسطية. وكانت الجزائر قد وجهت انتقادات إلى الاتحاد المقترح، مما أحاط مشاركة بوتفليقة في القمة بشكوك لم يجد معها ساركوزي من بد سوى إيفاد مبعوثين له تباعا إلى الجزائر حتى لا يضر غيابه بمشروعه المتوسطي. وهكذا، أوفد رجله الوفي كلود غيون، الكاتب العام للإليزيه، ليتوسل حضور الرئيس، تلاه بعد أسبوع وزير الخارجية، بيرنار كوشنير، في زيارة خاطفة لطمأنة المسؤولين الجزائريين بمستقبل الدور الذي يمكن أن يلعبوه في مشروع الاتحاد المتوسطي، وليصرح بأن الجزائر «بلد محوري في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط»، ثم الوزير الأول، فرانسوا فيون، ليعلن أمام الصحافة بأن موقع الجزائر حيوي بمنطقة المغرب العربي، وأن الصداقة بين البلدين نموذج في المتانة والثقة. ولم يكن ساركوزي في حاجة إلى تحميل مبعوثيه كل هذا العناء، لأن الرئيس بوتفليقة وإن كان سريع الغضب، فهو لا يتخلف عن مثل هذه المواعيد التي تخلد له بالصورة والحدث حضوره المتألق. ويجمع المتتبعون على أنه ما ثبت في التاريخ السياسي لبوتفليقة أن تخلف عن موعد بهذا الحجم من التمثيلية العربية والدولية. فالقمم هي طبقه المفضل منذ أن تقلد منصب وزير الخارجية وعمره لا يتجاوز السادسة والعشرين. وقد تميزت القمة أيضا بمقاطعة العقيد الليبي لها باعتبارها إهانة للعرب ومؤامرة ضدهم، حيث أكد في تصريحات سابقة أنه «لا يمكن الجري خلف الاتحاد من أجل المتوسط والتضحية بوحدة الأمة العربية والدول الإفريقية، فإذا أرادت أوروبا التعاون فلتأت إلى الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، ولكن لا نقبل أن تتعامل مع جزء واحد منهما». وكان الرئيس ساركوزي قد أوفد رجله الوفي، كلود غيون، الكاتب العام للإليزيه، إلى ليبيا، يوم 26 يونيو على رأس وفد رفيع يضم ثلاثة جنرالات وأعضاء من المديرية العامة للتسليح. الهدف: تعزيز الشراكة الاستراتيجية في مجال الدفاع وتنفيذ بنود الاتفاقيات المبرمة يوم 25 يوليوز بطرابلس، وخاصة جانبها المتعلق بالتكوين المجاني للأطر العسكرية الليبية. غير أن هذه الغارة الدبلوماسية لم تفلح في ثني القذافي عن حملته، لكنه قبل مع ذلك بإيفاد وزير خارجيته إلى القمة. والدول العربية إذ تتفهم مخاوف الدول الأوروبية من قضايا الهجرة والأمن والتطرف والإرهاب، فإن هذا التفهم يتطلب في المقابل، أن تأخذ الدول الأوروبية بعين الاعتبار مخاوف الدول العربية أيضا، وخاصة ما يتعلق منها بالتطبيع المجاني مع إسرائيل دون حل الإشكالية الرئيسية المتمثلة في ضرورة انسحابها من الأراضي العربية المحتلة وانصياعها لقرارات الشرعية الدولية. وعلى الرغم من تضمين المشروع المتوسطي عبارات العلاقات المتساوية بين دول ضفتي المتوسط وضرورات التنمية والتطوير وصولا إلى الشراكة الاستراتيجية وتغليب الاقتصادي على السياسي، فإن المشروع يتجاهل الموقف العربي والدولي بشأن الجولان المحتل والقضية الفلسطينية جوهر الصراع في المنطقة. وترفض الدول العربية في هذا السياق أن تحصل إسرائيل على المزيد من التطبيع المجاني وضمان الأرض والسلام في آن واحد. وتلح بعض الدول العربية على وجوب التريث وأخذ مسافة زمنية لمناقشة حيثيات مشروع ساركوزي، لأنها لا تريد تكرار تجارب فاشلة على غرار مسلسل برشلونة لعام 1995. فإذا كان ساركوزي يريد طفله المتوسطي، أو مولوده الجديد جميلا كامل الأوصاف، فعليه أن يدرك أنه ليس الأب الوحيد ومن ثم يلزمه التشاور مع الآباء الآخرين والأخذ بآرائهم، وأهمها ألا تطبيع مع إسرائيل دون أن تنصاع للشرعية الدولية وأن تنخرط بشكل كامل ومسؤول في مسلسل التسوية العادلة والدائمة للقضية الفلسطينية.