إجراءات أمنية غير مسبوقة استيقظت باريس صباح الأحد 13 يوليوز، موعد انعقاد القمة التأسيسية للاتحاد من أجل المتوسط على ضجيج طائرات الهيلوكبتر التي كانت تحلق منذ السابعة صباحا فوق سماء العاصمة، بينما الطرق المؤدية إلى قصر المؤتمرات وقصر الإليزيه ووزارة الخارجية شبه مقطوعة لتأمين مرور الوفود الرسمية إلى هذه المواقع. وقد انضاف هذا الصباح 3000 من عناصر الدرك والأمن إلى الفيلق الأمني الذي جندته السلطات الباريسية قبل ثلاثة أيام والمتكون من 5000 شخص منتشرين في مختلف المعابر المؤدية إلى مواقع القمة. التفتيشات الأمنية من فرط تشددها طالت حتى الحاملين لبطاقة المرور ومرافقي الوفود الرسمية، بينما خضع الصحفيون قبل ولوجهم مركز الإعلام لحملة تفتيش دقيقة بدأت من ثنايا الإبط إلى أسفل القدمين، قبل أن تشمل أدوات العمل من آلات التصوير والتسجيل وحتى السماعات الإلكترونية. وقد صمم المركز الإعلامي بشكل جعله مبتور التواصل مع قصر المؤتمرات حيث تجري أشغال القمة، مما فتح المجال لتكييف الشائعات وتضخيمها وفق أهواء الإعلاميين وتماشيا مع الخطوط التحريرية لمنابرهم. في تلك الأثناء، كانت فرقة خاصة تؤمن المرور لموكب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي حرص على إعادة تركيب مشهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بتوسطه رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت في لقطة تصافحية على إيقاع ابتسامات عريضة فيها أكثر من دلالة بروتوكولية. رئاسة مشتركة كان الصحفيون على موعد في الثامنة والنصف صباحا مع وزير الخارجية الفرنسي، بيرنار كوشنير، ونظيره المصري أحمد أبو الغيظ اللذين سيقدمان الخطوط العريضة للبيان العام المؤسس للقمة بشيء من الزهو والتفاخر، وكأن الاتحاد من أجل المتوسط أصبح بين عشية وضحاها المؤسسة التي لا غنى عنها في حل النزاعات وما أكثرها في منطقة تعرف، على امتداد العصور والأجيال، بأنها الأكثر توترا وحروبا في العالم. النشاز الأول: أراد كوشنير تمرير الكلمة إلى نظيره المصري بقوله: «أعطي الكلمة لرئيس الدبلوماسية المصري لأنه تم على حد علمي قبول مبدأ الرئاسة المشتركة لمصر إلى جانب فرنسا». هذه العبارة لم ترد في النسخة الرسمية من خطاب كوشنير التي سلمت للصحافة، فما كان من السيد أبو الغيظ سوى الرد بشيء من اللباقة المفخخة: «أشكرك السيد الوزير، ولكن القمة لم تبدأ بعد حتى نتحدث عن الرئاسة المشتركة». ولم يكن الوزير المصري يدرك أنه بهذا الرد أعاد إلى الواجهة موضوعا أقبره ساركوزي وحسم فيه مكرها على الرغم من تحفظات بعض البلدان الأوربية التي رأت في اختيار الرئيس مبارك للرئاسة المشتركة للاتحاد دعما للنهج السلطوي الذي يميز حكمه بمصر منذ 28 سنة. وانتهى الأمر بانقطاع خطاب الرئيس المصري أمام اندهاش الصحفيين الذين كانوا يتتبعونه على الشاشة بمركز الإعلام. المغرب أفضل حتى وإن... خلف اختيار الرئيس حسني مبارك ومن بعده احتمال احتضان تونس لمقر الاتحاد قلقا ظاهرا في الأوساط الإعلامية والدبلوماسية الأوربية، بدءا من ألمانيا التي قبلت بامتعاض ورقة ساركوزي المصرية، إلى بلجيكا التي صرح أحد دبلوماسيها في كواليس القمة بأن باريس تذهب بعيدا في مغازلتها للأنظمة الدكتاتورية: «لا أرى أنظمة ديمقراطية كثيرة في الضفة الجنوبية للمتوسط، وإذا كان لا بد من إرضاء المجموعة العربية، فمن الأفضل إسناد المقر للمغرب الذي قطع بعض الأشواط وإن كانت خجولة في توجهاته الديمقراطية»، وقد عقب عليه أحد الدبلوماسيين الأوربيين بسرعة قائلا: «قليل منكم من يعرف أن حقوق الإنسان ليست الوجبة الرئيسية في مطعم الاتحاد من أجل المتوسط كما يريده ساركوزي. وإنني على يقين أنه لو كان للرجل شيء يبيعه لكوريا الشمالية، لما تردد في الثناء على نهجها السياسي. إنه أمر مخجل أن تعتلي مصر كرسي الرئاسة وأن يقبل ترشيح تونس، نموذج الاستفراد بالسلطة من قبل رئيس حصل على ما يقرب من مائة في المائة من أصوات الناخبين التونسيين». وإلى جانب المغرب وتونس ومالطا، الدول المرشحة لاحتضان الأمانة العامة للاتحاد، انضافت إسبانيا لتقلب موازين الحظوظ لصالحها، وهي التي انطلق منها مسلسل برشلونة، النسخة المنقحة للاتحاد من أجل المتوسط. غياب محمد السادس تفيد الدوائر المقربة من الإليزيه بأن غياب الملك محمد السادس عن أشغال القمة لم تكن له صلة تذكر بالانشغالات الحثيثة بالشأن الداخلي وبالأجندة المكثفة للملك بالأقاليم الشرقية، كما أشارت إلى ذلك بعض وسائل الإعلام، وعدوله عن الالتحاق بموكب القادة المشاركين لا يعني تراجعا عن موقف المغرب المساند للمشروع المتوسطي، وإنما هو تذمر واستياء من المداهنة المفرطة للجزائر، إلى حد تفاخر الرئيس ساركوزي بالحضور الشخصي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وحرصه على الإعلان عن ذلك شخصيا من قلب العاصمة اليابانية طوكيو إثر اجتماعه به على هامش قمة مجموعة الثماني للدول الصناعية الكبرى. وحجة هذه الدوائر أن ساركوزي لم يجد من بد سوى إيفاد مبعوثين له تباعا إلى الجزائر حتى لا يضر غياب بوتفليقة بمشروعه المتوسطي، فأوفد رجله الوفي كلود غيون، الكاتب العام للإليزيه، ليتوسل حضور الرئيس، تلاه بعد أسبوع وزير الخارجية، بيرنار كوشنير، في زيارة خاطفة لطمأنة المسؤولين الجزائريين بمستقبل الدور الذي يمكن أن يلعبوه في مشروع الاتحاد المتوسطي، وليصرح بأن الجزائر «بلد محوري في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط»، ثم الوزير الأول، فرانسوا فيون، ليعلن أمام الصحافة أن موقع الجزائر حيوي بمنطقة المغرب العربي وأن الصداقة بين البلدين نموذج في المتانة والثقة. ولم يكن ساركوزي في حاجة إلى تحميل مبعوثيه كل هذا العناء، لأن الرئيس بوتفليقة، وإن كان سريع الغضب، فهو لا يتخلف عن مثل هذه المواعيد التي تخلد له بالصورة والقلم حضوره المتألق. وإذا كانت ذات الدوائر تجمع على أنه ما ثبت في التاريخ السياسي لبوتفليقة أن تخلف عن موعد بهذا الحجم من التمثيلية العربية والدولية، حيث إن القمم هي طبقه المفضل منذ أن تقلد منصب وزير الخارجية وعمره لا يتجاوز السادسة والعشرين، ولا تستبعد كواليس القمة أن يكون غياب الملك قد أعد له من قبل لتجنب إثارة ملف الصحراء. ثلاث تسميات والبقية تأتي سمي الاتحاد المتوسطي حينما أعلن عنه الرئيس ساركوزي بطنجة، ثم سمي الاتحاد من أجل المتوسط عندما عارضت بعض الدول الأوربية، وفي مقدمتها ألمانيا، صيغته الأولى تخوفا من أن يستفرد ساركوزي بالاتحادين الأوربي والمتوسطي معا، وها هم المشاركون يفاجؤون بتسمية ثالثة: «قمة باريس من أجل حوض المتوسط». وتبدو هذه التسمية في مواقع الأنترنيت وفي كل الوثائق والمطبوعات الموزعة خلال المؤتمر التأسيسي. والتسمية هي أيضا منقوشة في كل اللافتات التي زينت شوارع باريس، في انتظار تسمية ربما قد تأتي في اجتماع وزراء خارجية الأوروميد المقرر عقده في شهر نونبر القادم. استكمال الشوط الإضافي جاشت حدائق الإليزيه غداة القمة بنسيم العطور المتوسطية، والجميع، رجالا ونساء، ينتشون بميلاد اتحاد سيكون، والكلام على عهدة السيد الرئيس «أكبر مختبر للتنمية». وبينما جوقة الحرس الجمهوري تؤدي بعض المعزوفات الخالدة، تسارع رؤساء الوفود ممن فضلوا استكمال الشوط الإضافي وحضور احتفالات العيد الوطني، إلى القصر الرئاسي حيث ينتظرهم الرئيس في مأدبة غداء. ومن بين المحيطين بساركوزي، الرئيس البولندي، ليش كازينسكي، ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني، والأمين العام للأمم المتحدة، بان غي مون، ثم الرئيس بشار الأسد الذي استحضر مرفوقا بعقيلته، ذكريات شبابه بباريس: «كنت هنا (باريس) في نفس اليوم قبل 29 سنة، لكن بصفتي طالبا. وفي الجهة الخلفية يردد رئيس الوزراء الإسرائيلي: «إنه يوم جميل لأوربا وللسلم». ثم جاء دور الحكومة لتلتحق بالقصر الرئاسي حيث كزافيي داركوس، وزير التربية الوطنية مرفوقا بعقيلته وزميلته راما ياد، كاتبة الدولة في الخارجية وحقوق الإنسان، يمزح مع الحضور «انظروا إلى راما، ألست رجلا رقيق الذوق، ولكن حذار من أن ترمقني زوجتي». وجاء دور وزير الخارجية بيرنار كوشنير ليتباهى بدوره: «لم أكن أتصور أن نتوصل إلى مثل هذه النتيجة، إنها ثمار مجهود دبلوماسي فرنسي فاعل ومكثف»، قبل أن ينهض رئيس الجوقة وصانع المشروع ليقول: «إنه شرف لفرنسا أن يحل ضيفا عليها السيد بان كي مون الذي يجسد السلم في العالم». انفض الجمع بعد احتساء كؤوس من القهوة، وكان الغائب الوحيد، الوزير الأول فرانسوا فيون، الذي ألمت به وعكة صحية حرمته من الصور التذكارية المخلدة للحدث. كم هي مربحة جبهة الرفض مع ساركوزي الرئيس السوري بشار الأسد كان من بين الشخصيات الأكثر إحاطة بعناية ساركوزي، والسبب أنه أخذ في البداية مسافة من المشروع الذي يكرس في رأيه تطبيعا مجانيا مع إسرائيل، فما كان من ساركوزي إلا أن يستنجد به حتى لا يدفن مشروعه قبل ولادته، كما فعل تماما مع الرئيس بوتفليقة الذي انتقد القمة لأنها لن تحقق له أيا من المكاسب الدبلوماسية التي يسعى إليها جهويا وقاريا. وتؤكد كواليس المؤتمر أن الرئيس الأسد نجح بتزعمه في البداية مع بوتفليقة والعقيد القذافي جبهة الرفض، ليس فقط في حضور المؤتمر بما يلزم من تشريف وتكريم كفاعل مؤثر في نجاحه أو فشله، بل وأيضا في المشاركة في احتفالات العيد الوطني، بما نجم عن هذه المشاركة من موجة احتجاج واستياء أعقبتها تظاهرات نظمتها منظمات حقوقية بتنسيق مع المعارضة السورية بباريس. ومكاسب الأسد من هذا الحضور تتمثل في أنه لا أحد من الوفود الأوربية حاسبه على عدم تعامله بشفافية مع محكمة الجنايات الدولية التي أقرت بوقوف مسؤولين لبنانيين وسوريين وراء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، أو آخذه على أوضاع حقوق الإنسان بسوريا، أو حتى تأييده لحزب الله الذي تصنفه الدول الغربية في خانة الجماعات الإرهابية. وعن علاقة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بالنظام السوري، علق الأسد بهدوء قائلا: «الرئيس شيراك كان يريد ربط علاقاته مع سوريا بعلاقاته مع بعض الشخصيات اللبنانية. أما الرئيس ساركوزي فقد تبنى مقاربة أكثر واقعية».