أسر لي المرحوم كلود جوليان، الصحافي الفرنسي الكبير ومدير جريدتي لوموند ولوموند ديبلوماتيك، قبل أن يموت في ضواحي مدينة تولوز الفرنسية، فصول الصراع الظاهر و الباطن الذي وقع بينه وبين رئيس الجمهورية السابق شارل ديغول (الصورة)، محرر فرنسا ومؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، من بين محطات هذه العداوة السياسية والأيديولوجية بين الرجلين، نجذ قصة مواعيد منتصف الليل التاريخيةالتي كانت قمة الخصومة بين العملاقين و التي وصلت إلى مستوى السخرية والاهانة والتحقير والتجريح المتبادل أثناء ربيع 1968 . فقبل أن أروي قصة هذا اللقاء الليلي، حكا لي السيد كلود جوليان عن العلاقات المتوترة التي كانت قائمة بين السلطة السياسية والإعلام الحزبي والمستقل في فرنسا وذلك منذ تأسيس الجمهورية الخامسة إلى الآن(500 قضية مطروحة الآن أمام القضاء الفرنسي). فلقد كان كل رئيس جمهورية يبني إستراتيجيته وشبكاته الإعلامية العاكسة للوضع السياسي القائم والأحداث التي تشهدها فرنسا، حسب توجيهات وتسريبات معينة في منابر إعلامية معروفة، يقودها صحافيون موالون للسلطة وآخرون يعملون معها ولكن في الخفاء وفي منابر المعارضة. فعملية فبركة المعلومات وتسريبها إلى الصحافة المكتوبة موالية كانت أو معارضة أو مستقلة تقنية مألوفة، ونوع من التخاطب الخفي والسري، عمل عادي و جاري به العمل بين الطرفين-الرئاسة و الصحافيين-، فكثيرا من المعلومات والأخبار المنشورة كانت على شكل إشاعةأو خبر لا أساس له من الصحة (Rumeur et manipulation) ، الغرض منه تقييم اتجاه الرأي العام الفرنسي في حدث سياسي أو اقتصادي معين ميكانزم معروف لإرباك الخصم السياسي. دور كانت تلعبه الصحافة اليمينية الموالية للحكومة، تحت عناوين مختلفة. فكثيرا ما كان الفرنسيون يقرؤون خبرا صادرا عن مصدر موثوق به أو مطلع أو قريب من منبع القرار الاقتصادي السياسي للدولة. وكانت هذه الأخبار مدروسة ومفبركة ومسربة عمدا وبطرق ملتوية إنها المصداقية الكاذبة(crédibilité mensongère). أما صحافة المعارضة اليسارية، فهي الأخرى في إطار علاقة المد والجزر وصراعها مع السلطة ، كانت تقوم بدورها بنشر أخبار منسوجة ومركبة و مضادة وذلك على شكل إشاعة معينة لمعرفة ردود فعل السلطة السياسية و الشارع في موضوع معين، قصة القط مع الفأر في المجال الإعلامي، سلاح حاد ومتعدد الاستعمالات في توجيه الرأي العام الفرنسي، كل حزب له مقاصده وأهدافه من نشر تلك الأخبار المغلوطة والهادفة رجوع إلى السلطة. حصلت قصة موعد منتصف الليل بين الرئيس ديغول ومدير جريدة لموند أثناء ربيع الغضب سنة 1968، ففرنسا كانت تعيش مرحلة سياسية خطيرة شهدت عصيانا مدنيا كبيرا شل كل مفاصل الدولة الاقتصادية والاجتماعية: إضرابات، اعتصامات، مظاهرات واصطدامات مع قوة الأمن والدرك والجيش في جل المدن الفرنسية. أحداث كان يقودها اليسار الفرنسي، خاصة المتطرف منه "الماويون و التروسكيون" الذي كان يحلم بجمهورية شعبية مثالية. فكان موقف جريدة لموند الشهيرة المستقلة هو المساندة الغير المعلنة لهذه الاضطرابات الشعبية الحاصلة في شوارع مدينة باريس خاصة والمدن الأخرى عامة وكان خطابها الرسمي يدعو إلى ضرورة العودة إلى الشعب لإخماد الفتنة . فالمرحوم كلود جوليان كان من الصحافيين الذين يتوفرون على قدر كبير من الشجاعة والجرأة في مواجهة خصومه السياسيين، فكان في الخندق الأول في مجابهة مع الرئاسة الفرنسية علاقاته مع الرئيس ديغول كانت علاقات تصارعية تعكسها خلافات إيديولوجية وفكرية وسياسية ثابتة، فكلاهما كان ينتمي إلى مدرسة فلسفية معارضة ومضادة للأخرى. فالجنرال ديغول كان يمثل اليمين المسيحي الوطني (الكنيسة وأرباب العمل)، أما مدير جريدة لموند آنذاك، كان مناضلا يساريا ملحدا و علمانيا. القاسمان المشتركان للرجلين هما الإعجاب والاحترام المتبادلان وكذلك خوف كل واحد منهما من الآخر، فكل واحد كان يقدر الآخر ولكن يخاف من مكره وألاعيبه ومؤامراته وخداعه انه الارتياب الشديد. أعود إلى الحكاية الأصل، موعد منتصف الليل بين الرجلين، فبعد أن اشتدت الأزمة في باريس في مايو 1968، اتصل الرئيس ديغول بكلود جوليان بيومية لموند ، ليدعوه إلى قصر الإليزي. وحدد الموعد في منتصف الليل من يوم الأحد من أيام مايو من طرف واحد، فنزلت هذه الدعوة على رأس كلود جوليان كالصاعقة، فالرئيس ديغول كان يعلم أن هذا الصحافي ينام باكرا وأن يوم الأحد هو يوم عطلة وان الأوضاع السياسية المتأزمة فد بلغت الذروة. فأول إحساس انتاب كلود جوليان هو أن ديغول أراد أن يهينه بهذه الدعوة الغير العادية والغير المسبوقة والغير مناسبة في علاقاتهما المتوترة. فبعد تفكير عميق واستشارة لطاقم تحرير لموند - prefix = v ns = "urn:schemas-microsoft-com:vml" الصحافيون أغلبهم يساريون-، قرر مدير الجريدة الذهاب إلى الموعد المحدد في قصر الإليزي مقر رئاسة الجمهورية . كان الرجل يعتقد أن الرئيس ديغول قرر الرحيل عن الحكم، و أراد أن يعطيه سبقا صحافيا خاصة، في هذا الجو من الإشاعات التي كانت تملأ سماء باريس، إشاعات بعضها نشر في جريدة لموند عن طريق تسريبات منظمة و ملغومة وكان محورها يدور حول سيناريوهات هروب الرئيس ديغول إلى ألمانيا في طائرة هيلوكبتر، أو عزمه إعلان حالة الطوارئ في البلاد أو اعتبار بعض المدن الفرنسية كباريس مدن عسكرية مغلقة، أوقرا ره غلق بعض المنابر الإعلامية كجريدة لموند الشهيرة، وفي ذات الوقت، كان الصحافي الشجاع يفكر في أن رئيس الجمهورية الفرنسية قد أعد له فخا أو خدمة للإيقاع به في ظرف سياسي متأزم و أراد أن يستشيره في آليات الخروج من الأزمة القائمة بين السلطة و اليسار وهذا أضعف الإيمان كل هدا كان يدور في خياله قبل موعد منتصف الليل. وصل كلود جوليان إلى القصر الإليزي في الوقت المحدد، وعلى وجهه علامات استفهام كبيرة، فوجد القصر مضاء بشكل يلفت الانتباه، والموظفون يعملون بصفة عادية كخلية نمل مستيقظة في هذا الوقت متأخر من الليل. فأدخل مكتب الرئيس بمعية مدير التشريفات المبتسم دائما. إستقبال كان لا يناسب الواقع على الأرض، فالجماهير كانت في الشوارع تنادي بإقالة الرئيس العجوز محرر فرنسا وإبعاده عن الحكم، فبعد دخوله على الرئيس يقول كلود جوليان " وجدت الرجل في وضعية غريبة، كان يقرأ جريدة لومند وهو يضحك ويقهقه حتى خرجت الدموع من عينيه، ورجليه الطويلتين ممتدتان على المكتب حتى كادتا الوصول إلى باب المكتب الصغير والمتواضع". وبعد تبادل التحية بين الرجلين بدون بروتوكول أو ألقاب " مساء الخير يا كلود " فرد عليه الصحافي " مساء الخير يا شارل "' وبدون مقدمات وبدون أن يدعوه إلى الجلوس. يروي كلود جوليان: قال الرئيس ديغول لمخاطبه " إني دعوتك في هذه الساعة المتأخرة يا كلود لأقول لك الآتي: إنني عندما أريد أن أضحك وأتسلى، فإني أقرأ جريدة لموند في منتصف الليل، انتهت الزيارة" بعد تحية الوداع الباردة، انصرف الصحافي الكبير وفي قلبه غصة لا حدود لها، كادت أن تفجر قلبه المريض إهانة و سخرية صادرة من رأس هرم السلطة لمدير صحيفة وطنية كبيرة. غادر مدير جريدة لموند قصر الإليزي وهو يشعر بخيبة كبيرة و بإحساس بالدونية والضعف و التحقير وهو يجر رجليه كالمقاتل المهزوم والجريح، وفي رجوعه إلى بيته، أقسم بأن يطيح بالرئيس ديغول بطريقته الخاصة أي استعماله لسلاحه الخاص والفتاك هو القلم، لكي ينتقم لنفسه و كرامته التي داسها ديغول عبر خطة انقلابية جهنمية أساسها الإشاعة المفرضة، وبان يسخر هو الآخر بدوره من الرئيس، وأن يرد له الصاع صاعين . مر أسبوع بالتمام عن لقاء منتصف الليل الأول، وفكر كلود جوليان في نسج وحبك خبر من شأنه إحداث زلزال سياسي في البلاد، خبر يسرع في الإطاحة بالرئيس. وهكذا كتب معلومة مفبركة وملغومة ومن مخيلته في الصفحة الأولى من الجريدة وكان النبأ يقول: "حسب مصادر حسنة الاطلاع، فأن الرئيس ديغول سوف يتوجه بخطاب إلى الأمة الفرنسية، يعلن فيه عزمه تنظيم استفتاء شعبي، يطرح من خلاله مسألة بقاءه في الحكم أو رحيله عنه ،مانشيت كبيرة في الصفحة الأولى وبالحبر الأسود . فبعد نشر الخبر المذكور، اتصل الرئيس ديغول من جديد بكلود جوليان ليحدد موعدا آخر ، وفي نفس اليوم ودائما على منتصف الليل وباستعجال وإلحاح مستعملا لهجة غاضبة هذه المرة ،" فعند ذهابي إلى الإليزي، يقول كلود جوليان، وجدت القصر فارغا ملفوفا بالضباب و الظلام الدامس، عبارة من ثكنة عسكرية ". فاستقبله الرئيس في الموعد المحدد كالعادة، وقد بدى الحزن والحيرة على وجهه، وبيده نسخة من جريدة لموند اليومية. فبعد التحية، دعا الرئيس الصحافي للجلوس هذه المرة، وطلب له فنجان القهوة معتذرا عن هذا الموعد الغير العادي، ومعترفا له أن كل الأخبار والإشاعات التي كان ينشرها الإليزي في لموند كانت من صنعه الشخصي إنها كانت تسريبات مدروسة لمعرفة ردود الفعل على الأرض، لهذا السبب، كان يحب قراءة جريدة لموند في منتصف الليل لكي يضحك على ما فعل، لكن هذه المرة يقول الرئيس ديغول، أن خبر الاستفتاء كان خبرا صحيحا ولم يصدر عنه في الأساس... " إني فكرت في الأمر كما تحدثت عنه في الجريدة قبل طبعها بساعات، " يقول الرئيس" فلا غالب و لا مغلوب " إذن انه التعادل" (match nul). انتهت مواعيد منتصف الليل بين ديغول و جوليان بتنظيم استفتاء شعبي، قرر خلاله الشعب الفرنسي عدم تجديد الثقة في الرئيس المحرر لفرنسا وأب الجمهورية الخامسة. و رحل هذا الرجل العظيم عن السلطة سنة 1969. وانتصرت السلطة الرابعة في انقلابها السلمي أما السلطة الخفية الحقيقية، فكانت منقسمة تتفرج على الصراع تحث شعار الحياد في النزاع السياسي والتشبث بقوانين الجمهوريةواستعمال وتوظيف كل ما يروج عند الاقتضاء. ذ.عبد الرحمن مكاوي أستاذ العلاقات الدولية/جامعة الحسن الثاني المغرب [email protected]