(ردا على مقالة محمد ضريف) نشرت «المساء» في عدد الخميس (26/8/2010) مقالا لمحمد ضريف تحت عنوان: (المشروعية بين الإرث الجاهلي والموروث الإسلامي)، اشتملت على طعن في نظام الخلافة الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تساءلتُ: ما الفائدة من هذا المقال سوى تقديم خدمة مجانية للشيعة والمستشرقين الطاعنين في الإسلام؟ وما قيمة هذا التحامل أمام مسلمات اتفقت عليها الأمة، تحامل تضمن طعنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لمزه الكاتب لمزا صريحا بقوله: «إن احتكار القرشيين للسلطة لم يكن فلتة بل أتى نتيجة منطقية لمسلسل تم الإعداد له من قبل وبمباركة من المؤسس القرشي»!! إن هذه الزلة الخطيرة ترجع، في نظري، إلى نوع المصادر التي اعتمد عليها الكاتب في تكوين رأيه الذي ظن، خطأ، أنه رأي علمي قائم على بحث موضوعي متجرد، بينما هو لا يعدو كونه اجترارا لشبهات المستشرقين المتحاملين على الإسلام، واستعمالا لألفاظهم التي تمس الجناب النبوي المكرم. لقد كان الكاتب أبعد ما يكون عن بناء بحثه على الأدلة الفاصلة والمنهجية الموضوعية في تبني المعلومة وتحليلها، وهو ما أُجمل بيانه في محاور: أولها: النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون لا يتبنون شيئا من أمر الجاهلية، بل السيرة تطفح بمواقفهم القولية والعملية في الحث على مخالفة أفعال الجاهلية. ثانيها: ليس كل ما كان عليه العرب قبل الإسلام من أمر الجاهلية، بل كانت عندهم عادات وأعراف محمودة أقرها الشارع. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (رواه مالك). ومن الأمور التي أقرها الشارع «فضل قريش» و«تقديم الأكبر» في الحكم وغيره، فهما -إذن- من الإسلام وليسا معياران من الموروث الجاهلي كما زعم ضريف! ثالثها: اختيار أبي بكر للخلافة موقف نبوي، كما أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للرسالة أمر إلهي: قال سبحانه: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَته)، (الأنعام/124)، فهو صلى الله عليه وسلم رسولٌ، وليس مجرد «مؤسس قرشي»! والأدلة على أن خلافة أبي بكر تشريع نبوي كثيرة، وليست منحصرة في الاعتبارات الثلاثة التي نقلها الكاتب: «من ذلك ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم، قال: «أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»، وذلك نص على إمامته. وحديث حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر»، رواه أهل السنن. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: «ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتابا»، ثم قال: «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر». وفي رواية: قال: «معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر». وروى أبو داود أيضا عن جابر رضي الله عنه أنه كان يحدث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر»، قال جابر: «فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه». لقد كانت معايير اختيار الخليفة الأول منطقية ومعقولة، وهي عين المصلحة، وترجع إلى اعتبارين أساسين: 1 - المؤهلات العلمية والسبق إلى الدين (معيار ذاتي): فأبو بكر رضي الله عنه أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم بدعوته وبالدين الموحى به إليه. وما ورد في حقه من التزكية القرآنية والنبوية كفيل بأن يجعل كلمة المسلمين مجتمعة عليه. بل إن الاختيار النبوي له يشتمل على إعجاز تشريعي، يتمثل في كونه كان الأصلح والأكمل من حيث كونه يتضمن وقاية من تردي الأمة في درك النزاعات القبلية المدمرة.. ومن هنا نفقه مغزى المعيار الثاني، وهو: 2 - القرشية (معيار اعتباري): لقد ثبت النص النبوي في اشتراط كون الخلفاء بعده من قريش. ولإبراز جوانب من حكمة هذا الحكم، ينبغي أن نستحضر حقيقة مهمة، وهي أن العرب كانوا يعانون من نزعة الثورية العمياء التي أضعفتهم عبر التاريخ وجعلتهم لقمة سائغة في أيدي أعدائهم، فقد مزقتهم الصراعات على السلطة، وكثرة الثورات التي تقوم على توافه الأمور، فكان من عزتهم بهذا الدين تخلصهم من ذلك الموروث الجاهلي، وانتظامهم في نظام حكم مستقر مكّنهم من أداء رسالتهم السماوية وبناء حضارة مجيدة، والفضل في ذلك يرجع إلى التوفيق الرباني، ومنه ما هدى الله إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في شأن الخلفاء بعده. لقد كان العرب متفقين على فضل قريش وتقدم مكانتها، فجعلُ الخلفاء منهم أدعى إلى اجتماع كلمتهم وأنسب لبناء وحدتهم، فالاشتراط يراعي هذا المعنى وليس عصبية جاهلية كما زعم ضريف مقلدا للمستشرق (فان فلوتن). وهذا هو ما عناه الصديق في خطبته في السقيفة حين قال للأنصار: «قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب، فليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم..». ثم إن الواقع يشهد بأن ذلك الاختيار كان هو الأصلح، كما يعلم ذلك من ينظر في مواقف الصِّديق التي ثبت الله بها الإسلام المستهدف من طواغيت الكفر -وعلى رأسهم المجوس الذين زرعوا «فيروس» الرفض في جسد الأمة- وقد رأينا كيف أخمد الصديق فتنة مدعي النبوة، وثورة الأعراب الذين أرادوا هدم الإسلام بهدم أحد أركانه، وكيف مهد الطريق لفتوحات الإسلام المجيدة..، فضلا عن سيرته الحميدة وعدله ورحمته بالأمة..، وفضلا كذلك عن سابقته في الإيمان ونصرة الدعوة نصرة قلّ في التاريخ نظيرها وعزّ في الوجود عديلها. أضف إلى ذلك كله أن عليا رضي الله عنه، الذي زعم الكاتب -تقليدا للشيعة الرافضة- أن الصحابة اغتصبوا منه الحكم!! هو نفسه بايع أبا بكر وشهد بفضله، كما تواتر عنه في كتب الرواية والتاريخ، ومنها المصادر الشيعية نفسها..