يسعى الكاتب، من خلال هذه الخواطر الرمضانية، إلى دعوة المؤمنين إلى الارتقاء بممارساتهم اليومية خلال شهر رمضان المبارك، باعتبار هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا، الماضي منها والقادم، كما أنه يأتي ليدفعنا إلى وقف هذا السباق المحموم على الدنيا و المنافسة المحتدمة من أجل الاستهلاك ولا شيء آخر غير الاستهلاك، الذي يُنْسي الإنسانَ الكثيرَ من القيم الجميلة التي يستعيدها في أيام رمضان الروحانية... أين الخلل إذن؟ يحلو لكثير من المثقفين والباحثين أن يؤكدوا أن من أهم أسباب الخلل ما وقع في التاريخ الإسلامي من إغلاق باب الاجتهاد، وقالوا إن ذلك أدى إلى تجميد الحياة الإسلامية والفكر الإسلامي، وإلى حرمان الفقه الإسلامي من قدرته السابقة على التفاعل الإيجابي مع تطورات الحياة ومسايرتها بالتسديد والتقويم.. وقالوا أيضا: إن من أهم شروط تحقيق نهضة أمتنا فتح باب الاجتهاد من جديد ورفع الحظر الذي أوقعته عليه قرون الضعف والانحطاط، وقالوا: ينبغي أن نجتهد لمشكلات هذا العصر، ونستنبط لها أحكامها الفقهية، ليتبين أن الإسلام قادر على قيادة الحياة الحديثة، وليتبين أيضا أن الفقه الإسلامي يمكن أن يحل مشاكل الأمة ويواجهها. وقد تداعى الناس إلى هذه الفكرة وتقبلوها، وظهر فقهاء متحررون من قيود الفقه المتأخر ومسالكه، واجتهدوا وأفتوا وبحثوا عن المشكلات المعاصرة وحلولها.. وكان جهدا مشكورا . والحقيقة أنه لم يعد أحد يعترض على فتح باب الاجتهاد، فهو واجب شرعي، لأن الناس تحدث لهم أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ولا بد أن يقدم الدين كلمته في كل ما ينزل بالناس من حوادث وفي كل ما يستجد من قضايا.. هذا واضح لا إشكال فيه من حيث المبدأ، لكن يجوز للدارس أن يلاحظ أمورا حول الاجتهاد المعاصر، وبعض هذه الأمور استمرار بعض صور الاجتهاد: إن باب الاجتهاد -في تاريخنا- لم يغلق كله وبكل صوره، إذ من المعلوم أن الاجتهاد مراتب ودرجات، أعلاها الاجتهاد المستقل، أي الذي استقل بأصول وقواعد وأساليب في الاستنباط جديدة لم يسبق إليها، وهذا فقد منذ زمن طويل كما نص عليه العلماء، لأن الأصول والقواعد تقررت وانتهت ومن المتعذر إحداث جديد فيها.. وثانية المراتب: درجة المجتهد المطلق، وهو الذي استوفى شروط الاجتهاد، فيجتهد في الأصول وفي الفروع، ولا يلتزم بمذهب معين، وهذا الذي ضن به المتأخرون على كثير من العلماء ممن تحققت فيهم -فعلا- شروط الاجتهاد، كالعز بن عبد السلام والمازري والسبكي والشاطبي وابن تيمية وابن دقيق العيد والكمال بن الهمام والسيوطي وأضرابهم. وثالثة المراتب: مجتهد التخريج. ورابعة المراتب: مجتهد الترجيح. وليس بعد هذه المراتب اجتهاد، إنما هو تقليد عن علم وتبصر كحال كثير من أهل العلم، أو هو تقليد صرف كحال العوام. إن الذي تم إغلاقه فعلا إنما هو باب الاجتهاد المطلق، وهو الذي ادعاه -عن حق- السيوطي رحمه الله تعالى ونوزع فيه وكتب في ذلك رسالته «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض». أما مرتبتا اجتهاد التخريج واجتهاد الترجيح فهما لم تمنعا، وإن كان في الناس من ذهب إلى ذلك. ولهذا استمر الفقهاء -عبر تاريخنا- في ممارسة هذين الاجتهادين، وهو أمر واضح في كتبهم وفتاويهم.. فالشيخ خليل لما صنف مختصره في الفقه المالكي اعتمد على أربعة من أبرز علماء التخريج والترجيح في المذهب: اللخمي، وابن يونس، وابن رشد، والمازري. ومتأخرو الأحناف خالفوا كثيرا من آراء شيوخ المذهب المتقدمين، وعللوا ذلك بأنه اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. ثم إن الاجتهاد ينقسم أيضا إلى قسمين: الاجتهاد الكلي والاجتهاد الجزئي. وقد قال جمهور الأصوليين: إن الاجتهاد الجزئي جائز ممن حصّل ملكة الاستنباط، وبابه مفتوح. والحقيقة أن الاجتهاد الجزئي هو النافذة التي استغلها الفقهاء المتأخرون ليجتهدوا في كثير من القضايا ويبحثوا فيها، وهذا ما جعل من الاجتهاد عملية مستمرة وإن كانت لا تصل إلى سعة الاجتهاد المطلق وآفاقه. وينقسم الاجتهاد أيضا إلى تخريج المناط، وتنقيح المناط، وتحقيق المناط. وقد استمر الاجتهاد لتحقيق المناط واقعا قائما. والخلاصة التي أريد أن أصل إليها هي أن باب الاجتهاد لم يغلق كله وبجميع صوره، فإن من أقسام الاجتهاد ما ظل مفتوحا ممكنا للقادر الراغب فيه. وهذا ما يفسر ما يلاحظه الدارس في أحيان كثيرة من اختلاف كبير للمذهب ما بين زمن الإمام وتلامذته وما بين زمن علماء المذهب المتأخرين، ولهذا أرى -والله سبحانه أعلم وأحكم- أن «قضية غلق باب الاجتهاد» قضية بولغ في الكلام عنها وفي تضخيم أثرها وسلبياتها، بحيث صارت عند المحدَثين بمثابة المشجب الذي تعلق عليه كل الأخطاء والبلايا والرزايا التي عرفتها الأمة، خصوصا في القرون الستة الأخيرة. لقد حُمّلت هذه القضية بأكثر مما تحتمله ونسب إليها وإلى فعلها الشيء الكثير مما حوى حقا وباطلا. يتبع...