يسعى الكاتب، من خلال هذه الخواطر الرمضانية، إلى دعوة المؤمنين إلى الارتقاء بممارساتهم اليومية خلال شهر رمضان المبارك، باعتبار هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا، الماضي منها والقادم، كما أنه يأتي ليدفعنا إلى وقف هذا السباق المحموم على الدنيا و المنافسة المحتدمة من أجل الاستهلاك ولا شيء آخر غير الاستهلاك، الذي يُنْسي الإنسانَ الكثيرَ من القيم الجميلة التي يستعيدها في أيام رمضان الروحانية... بين الإسلام والمسيحية فروق كثيرة، والإسلام لا شك أعلى. لكن بينهما أيضا مسائل مشتركة أو على الأقل متشابهة، والسبب في ذلك واضح، إذ كلاهما صدر عن مشكاة واحدة، هي الوحي الإلهي، إنما حفظ الله تعالى بنفسه سبحانه دينه الخاتم، وأوكل حفظ الأديان السابقة إلى أهلها، ففرطوا ونسوا وحرّفوا.. وانتهى الأمر إلى أن الكتاب المقدس الوحيد الثابتة نسبته إلى صاحبه هو القرآن الكريم، لا شك أنه من تلاوة النبي عليه السلام، ثم إن المسلم يرى أن محمدا ما كان إلا رسولا بلّغ الكتاب والرسالة، وغير المسلم يرى سوى ذلك.. والواقع أنني كنت أتمنى لو كانت أوربا وأمريكا مسيحيتين بحقّ، إذ أرى أن عالما مسيحيا أفضل من لا شيء. واليوم فإن أوربا كما قال الأديب فاكلاف هافل، رئيس تشيكوسلوفاكيا السابق هي أول حضارة ملحدة في التاريخ. صحيح أن الأكثرية الساحقة من الأوربيين يؤمنون بوجود الله، لكنهم ما عادوا يقيمون وزنا للأديان، ويتجنبون التفكير المزعج في الموت وما بعده، حتى الجانب الأخلاقي في المسيحية، وهو جانب طيب، ألغوه من حياتهم التي صارت مادية صرفة، تقوم على العمل والاستهلاك والاستغلال، لا شيء غير ذلك. نعود إلى المشترك، ومن نماذجه التي تحضرني اليوم: فلسفة باسكال، فهذا الرياضي والفيلسوف الذي مات في شبابه، كان من أعلام فرنسا بالقرن السابع عشر. قد أعجبني بعض فكره الديني، خاصة من خلال كتابه «أفكار»، فهو يرى أن الإنسان مخلوق بئيس، آية ذلك أنك لو نظرت في الكون وتأملت اتساعه الهائل وأجرامه الضخمة ومسافاته الضوئية.. وقارنت ذلك بالإنسان بجسمه الضئيل الذي يتحرك فوق الأرض، وهي مجرد نقطة في بحر الكون العظيم.. لوجدت أن هذه المقارنة مخيفة، فعلا، وتكشف عن حدود الإنسان. كذلك لو قارنت عمر الكون وزمان المجرات مع العمر الصغير للإنسان.. لعرفت أن وجودنا نحن مجرد لحظة عابرة في الزمن اللانهائي للوجود. ماذا يفعل الإنسان إزاء هذه الحقائق المؤلمة: إنه يتجاهلها، ويجهد نفسه في الإعراض عنها، ويحاول تناسيها. هل ينجح في ذلك؟ في الواقع.. لا ينجح، إذ الإنسان حين يقف عاريا وحيدا أمام هذه الحقائق الكبرى.. فإنه لا يتحملها، ولا يقدر على مواجهتها.. لذلك يلجأ فيما يرى باسكال إلى إلهاء نفسه وشغل عقله عن هذه المواجهة المرعبة، وذلك عن طريق الاستغراق في تلبية شهوات النفس والجسد، وبالإكثار من الحفلات والاحتفالات، وبتغطية حقيقته العارية بالزينة والتزين والبهرجة.. فهذه الدنيا هي التي وصفها القرآن بقوله: (إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد..)، الآية. إن قوة الدين تكمن في إجابته عن هذه الأسئلة، وما يفسر قدرته على الاستمرار في حياة البشرية منذ نشأتها إلى اليوم هو أنه الوحيد الذي ثبت أنه يستطيع إنقاذ الإنسان من هذه المواجهة العارية.. لذلك فحاجة البشرية إلى الدين حاجة أصيلة وعميقة يستحيل تجاوزها أو تجاهلها. واليوم حين أرى تكالب الإنسان المعاصر على الاستهلاك والمتعة المادية.. حين أرى كثرة الطعام والشراب وتنوعهما، وعالم الموضة المجنون، وسعار الجنس، والمبالغة في طلب الفرجة، والإدمان بأنواعه، وانهيار الأسرة، وتفشي الفردانية والأنانية.. وسائر مظاهر الأزمة التي يشير مفكرو العصر إلى أنها تعكس انتحارا بطيئا للبشرية.. حين أرى ذلك أتذكر حديث باسكال عن «بؤس الإنسان من دون الله». هل الإنسان أسعد حالا، وهو يقبر نفسه في هذه الأوهام كما تفعل النعامة بإخفاء رأسها في الرمل معتقدة أنها بذلك تنجو من عدوها.. كلا! ليست البشرية أفضل حالا، فالحروب اليوم أكثر عددا وأشد فتكا وتدميرا، والاضطرابات النفسية والقلق المزمن أقلها أكثر انتشارا، والعلم الذي كان يتوقع منه أن ينقذنا أصبح بإمكانه أن يدمرنا، ونسب الانتحار غير مسبوقة تماما في التاريخ، والذين يعيشون لوحدهم ذكورا وإناثا يقدرون بمئات الملايين.. مسكين هذا الإنسان، يظن أنه يهرب من أسئلة الوجود بمزيد من الاستهلاك واللهو واللعب.. إنه في الواقع يهرب من الله، فالله تعالى هو من وراء هذا الكون وهذه الضخامة في الوجود وهذه الحياة وهذا الإنسان.. الله وراء كل شيء.. مسكين هذا الإنسان بكبريائه الفارغة، ألا يعرف أنه لا مهرب من الله إلا إليه؟