يسعى الكاتب، من خلال هذه الخواطر الرمضانية، إلى دعوة المؤمنين إلى الارتقاء بممارساتهم اليومية خلال شهر رمضان المبارك، باعتبار هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا، الماضي منها والقادم، كما أنه يأتي ليدفعنا إلى وقف هذا السباق المحموم على الدنيا و المنافسة المحتدمة من أجل الاستهلاك ولا شيء آخر غير الاستهلاك، الذي يُنْسي الإنسانَ الكثيرَ من القيم الجميلة التي يستعيدها في أيام رمضان الروحانية... رمضان فرصة لاكتساب عادة القراءة.. إذ في الزمن سعة، وقد تحرر الإنسان من روتين الحياة ومن إكراهات النوم والطعام. ومن المؤسف أن نلاحظ أننا معاشر العرب والمسلمين أقل الأمم احتفالا بالقراءة وأضعفها اهتماما بالكتاب والكتابة. إنه ليس أمرا عبثيا أن تكون أول آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي: (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، فأول آية من القرآن تدعو إلى القراءة وتتحدث عن العلم وعن تعليم الإنسان، الذي لم يكن يعلم شيئا، وتتحدث عن الكتابة وأداتها العظيمة: القلم.. ويوم استجابت الأمة لهذه الدعوة الإلهية، انتشرت فيها العلوم من كل نوع: علوم الدين وعلوم اللغة وعلوم التاريخ والإنسان وعلوم الطب والهندسة والرياضيات.. وظهرت المدارس والمعاهد والجامعات في كل أرجاء العالم الإسلامي.. وأسس المسلمون، لأول مرة في التاريخ -كما أوضح ذلك سامي النشار في كتابه «مناهج البحث عند مفكري الإسلام»-المنهج التجريبي في العلوم، ثم استفادت منه أوربا وأنتجت به هذه الثورة العلمية والتقنية الهائلة. ثم دار الزمان، حتى كاد الجميع يصبح أميا، حتى المتعلم انصرف عن القراءة عند أول اختبار. واليوم، في عدد من مدن المملكة وقراها.. إذا رآك الناس تتأبط جريدة، عجبوا منك، أما إذا كنت تحمل كتابا فربما نفروا منك، فإذا رأوك تقرؤه قالوا: مسكين! وربما نسبوك إلى مرض عقلي غير معروف... لماذا لا نقرأ؟ لماذا نصرّ على التمسك بالجهل؟.. يُخيَّل إليّ، أحيانا، أننا نكره العلم وأننا ننتقم من المعرفة بالإعراض التام عن القراءة.. كأننا لا ندري أننا ننتقم من أنفسنا ومن مستقبل أبنائنا. أعرف بيوتا ومنازل فيها كل شيء إلا الكتاب، ما فيها كتاب واحد، بل ليس في بعضها حتى نسخة من القرآن الكريم.. وأعرف مكتبات كثيرة أُغلقت أو تحولت إلى نشاط تجاري آخر (مثل بيع الأحذية أو المأكولات..). وأعرف آباء لم يشتروا لأبنائهم قصة أو رواية أو كتابا ما طيلة حياتهم، وإن كانوا يشترون لهم ألعابا تتْلف عند أول استعمال أو ألبسة لا يحتاجونها. والكارثة أننا ليس فقط لا نقرأ، بل إننا فخورون بحالنا، مطمئنون إلى واقعنا، فالجاهل منّا يظن نفسه ذكيا فاهما، يعرف كل شيء، ويفهم كل موضوع. هكذا، انضاف الغرور إلى الجهل، فنتجت عنهما تركيبة سامة خطيرة.. فالجهل مع الغرور مصيبة في الدين والدنيا. قلت في نفسي ربما هذا من نتائج الحداثة ومن طبيعة العصر، لكنني ذات يوم بينما أنا أفكر في أحوال شباب المسلمين الذين لا يقرؤون ولا يدرسون، بل هم للعلم والمعرفة كارهون.. سألت أستاذا أمريكيا زميلا: أهكذا الحال عندكم في أمريكا؟ فأجابني: لا، الناس عندنا ما يزالون يدرسون ويهتمون بما يدرس. أحيانا، يراودني هذا السؤال: لماذا أكتب، ولمن أكتب؟ إذا كان الناس لا يقرؤون، فلمن نكتب؟ وأحيانا، يلح عليّ خاطر الكتابة بلغة أخرى ولقوم آخرين.. يُقدِّرون الكتابة ويمارسون القراءة، فأفكر في الكتابة بالفرنسية التي أتقنها، أو بالإنجليزية التي عليّ إتقانها. كيف نطمع أن يكون لنا مكان بين الأمم، إذا كنا نعادي العلم إلى هذه الدرجة؟.. أنظر إلى الرسول العظيم، ماذا قال لأسرى غزوة «بدر» من القرشيين، قال لهم: من علّم منكم عشرة من أبنائنا القراءة والكتابة فهو حرّ. كما لم يطلب منهم دينارا ولا درهما، بل طلب منهم تعليم أطفال المسلمين. لقد أحب المسلمون الدنيا ومتاعَها الزائل إلى درجة خطيرة، ولعن الله هذه الدنيا وهذا الاستهلاك الحيوانيَّ الذي أغرق الناس في شهوات البطن والفرج، لا يعرفون غيرها. نعم، لعن الله مثل هذه الدنيا، ألم يقل النبي الكبير: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم»، كما في سنن الترمذي. هذه هي الدنيا التي يحترمها الإسلام: دنيا الذكر والعلم والتعليم، لا دنيا الاستهلاك الغبيّ، الذي يُخرِّب النفوس ويخدر العقول ويُدمِّر الأرض والحياة. «إقرأ» هي أول آية وهي البداية، فما لم نقرأ لن نتقدم قيد أنملة، وسنظل نراوح مكاننا في الطين والوحل بينما الآخرون يصعدون إلى السماء ويسافرون في الفضاء.. أقسم بالله أننا سنظل كذلك حتى نقرأ، فاقرأ...