يسعى الكاتب، من خلال هذه الخواطر الرمضانية، إلى دعوة المؤمنين إلى الارتقاء بممارساتهم اليومية خلال شهر رمضان المبارك، باعتبار هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا، الماضي منها والقادم، كما أنه يأتي ليدفعنا إلى وقف هذا السباق المحموم على الدنيا وعلى المنافسة المحتدمة من أجل الاستهلاك ولا شيء آخر غير الاستهلاك، الذي يُنْسي الإنسانَ الكثيرَ من القيم الجميلة التي يستعيدها في أيام رمضان الروحانية... يرى أكثر العلماء أن الشريعة معلَّلة كلها، بمعنى أن الأحكام الشرعية تحقق مصالح معينة للناس (حتى العبادات المحضة، كالصلاة والصيام)، غاية الأمر أننا قد لا ندرك هذه المصالح، وإذا أدركناها قد لا نفهمها حق الفهم. وشعيرة الصوم، وصوم رمضان خاصة، مملوءة بالحِكَم والمصالح، بعضها معروف منذ القِدَم، فقد قال الفقهاء مثلا: إن من حِكَم الصيام الشعور بالجوع واختبار الحرمان، للتعاطف مع الفقراء الذين لا يجدون كفايتهم من الطعام. ونحن نستطيع، دائما، اكتشاف حِكم أخرى في الصيام، في ضوء تطور الخبرة البشرية ونمو معارفها الطبية والعلمية والإنسانية. من المعروف، اليوم، أن الصوم يُخلِّص الجسم من كثير من السموم المتراكمة فيه، ويعدّ بمثابة نوع من الغسيل العام للمعدة، فينقيها من بقايا الطعام التي تبقى فيها، لأنها لا تجد فرصة للتخلص منها، ما دام صاحبها يفاجئها، كل ساعة، بأكل جديد.. بل حدَّثني أستاذ صديق في كلية الطب عن أن للصيام أثرا إيجابيا على الدماغ وبعض وظائفه. وهناك في الطب الحديث لعلاج بعض الأمراض ما يسمى حمية الصوم، وهي امتناع تام عن الأكل. ويعرف عصرنا مشكلة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، هي مشكلة البدانة أو السمنة المفرطة. لقد عانى الإنسان من الجوع، أو من قلة الغذاء، ويحتفظ التاريخ بسنوات عديدة من المجاعات مسّت أكثرَ شعوب العالم، وبعضها يعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية. لكن العالم بدأ يعرف ولأول مرة في التاريخ مشكلة السُّمنة، فلأول مرة يعاني الإنسان من كثرة الطعام، وليس من قلته. ومن العجيب، فعلا، أنني في قراءاتي في شروط الساعة، حيث كنت أبحث في موضوع المستقبل في الإسلام، قرأت حديثا يذكر فيه النبي الكريم من علامات الساعة: ظهور أصحاب البطون الكبيرة. والحق أن العالم لم يعرف، أبدا، هذا العددَ الكبير، وهو بعشرات الملايين، من أصحاب البطون المنتفخة. إن مشكلة السمنة تطورت اليوم إلى الحد الذي صارت معه بمثابة وباء عام، خاصة في النصف الشمالي للكرة الرضية، فأكثر من نصف الأمريكيين يعانون من زيادة كبيرة في الوزن، ومع البدانة تأتي سلسلة من الأمراض المنتشرة، كالسكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين وآلام الظهر واضطرابات الهضم وارتفاع الكولستِرول... وهذه مشكلات خطيرة بالفعل، لأن السمنة إذا جاوزت حدا معينا، تصبح نوعا من الإعاقة الجسدية. وحار العالم وما يزال في علاج المشكلة، وظهرت سوق مزدهرة للحمية: مأكولات من كل نوع، وشركات، كتب، ومجلات، واختصاصيون ومستشارون في التغذية، وأوهام كثيرة وحقائق قليلة.. واشتهرت في الولاياتالمتحدة حمية عُرِفت باسم الطبيب الأمريكي أتكينز، أشهر حمية في القرن العشرين، وتقوم على استهلاك الدهنيات والبروتينات، دون حدود، وتجنب السُّكَّريات، إلى أبعد حد ممكن.. ثم اكتشف الجميع ظاهرة «العَود»، أي أن تسعين في المائة من الذين يمارسون الحمية، مهما كان نوعها، يستعيدون وزنهم الذي خسروه بشق الأنفس وبالحرمان الشديد، بمجرد توقيف الحمية. ذلك أن الإنسان المعاصر يريد أن يأكل كل شيء، ومتى شاء، وأن يأكل كثيرا، حدّ الشبع، بل فوق الشبع.. دون أن يزداد وزنه. وتلك قضية خاسرة وأمل مستحيل، ووهم من أوهام إنساننا المعاصر البئيس. أعود إلى حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، فأجد في بعض أقواله الحكيمة وصفَ المشكلة وعلاجَها. فهو عليه السلام ينصحنا بعدم الأكل، إلى درجة التخمة أو الشبع المفرط، يقول: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع».. وفي حديث آخر: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه.. فإن كان ولا بد، فثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك».. أي الهواء، فيبقى ثلث المعدة، فارغا. وأنت حين تحضر بعض الحفلات، تجد كثيرا من الناس في سباق حول أيهم يملأْ معدته عن آخرها، حتى تفيض تجشؤا وهواء... لقد انتهى خبراء التغذية إلى أن حَلّ مشكلة السمنة المفرطة يكمن في الإرادة وشهوة الأكل والشرب من أقوى الشهوات الإنسانية التي تحتاج إلى قوة الإرادة لضبطها. فعلى كل واحد منا أن يقوي إرادته، لكي يصمد أمام إغراء الأكل والطحن والمضغ والبلع والخلط. وهذا بالضبط أحد أهم أهداف عبادة الصيام: تربية الإرادة وتدريب المسلم على التحكم في شهوة الطعام. لذلك يجب الحرص على الاعتدال عند الإفطار، حتى لا نفسد الفوائد الصحية والنفسية المكتسَبة خلال النهار.