يسعى الكاتب، من خلال هذه الخواطر الرمضانية، إلى دعوة المؤمنين إلى الارتقاء بممارساتهم اليومية خلال شهر رمضان المبارك، باعتبار هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا، الماضي منها والقادم، كما أنه يأتي ليدفعنا إلى وقف هذا السباق المحموم على الدنيا و المنافسة المحتدمة من أجل الاستهلاك ولا شيء آخر غير الاستهلاك، الذي يُنْسي الإنسانَ الكثيرَ من القيم الجميلة التي يستعيدها في أيام رمضان الروحانية... في أعماق الزمن البعيد والسحيق، حدثت أمور كثيرة لا نعلم عنها شيئا، بعضها وقع في الأرض، ويمكن أن نتوصل إلى معرفة جزء منه عن طريق العلوم، كعلم الآثار مثلا. وبعض الوقائع حدثت في السماء، فهي غيب عنا، ولا سبيل لنا إلى إدراكها إلا عن طريق الوحي، من ذلك «ميثاق الذر»، فما قصته؟ يقول الله جل جلاله، في إشارة إلى هذا الميثاق: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كنا عن هذا غافلين) . وقد سئل عمر رضي الله عنه عن الآية، فقال إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. وفي حديث آخر: إن الله أخذ الميثاق من ظهر بني آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلا، قال: (ألست بربكم...)، الآية. والحاصل من القرآن والسنة أنه لما خلق الله تعالى آدم، أخرج إلى الوجود كل البشر من عهد آدم إلى آخر الناس الذين تقوم عليهم القيامة. وهذا الإخراج يحتمل أن يكون من ظهر آدم فقط، فيظهر كل أبنائه منه، ويحتمل أن الباري سبحانه أخرج من ظهر آدم بنيه لصلبه فقط، ثم أخرج بني بنيه من ظهور بنيه، وهكذا. وكان الناس حين هذا الإخراج كالذر، وهو الغبار الدقيق الذي يطير في الهواء، لذلك يضرب به المثل في الصغر. وجعل الله تعالى في ذلك الذر العقل والفهم والنطق، حتى يستوعبوا العهد. ثم إن البشرية حين خرجت إلى عالم الذر، وقفت كلها أمام آدم ونظر إليهم بعينه، وخاطبهم الله سبحانه: (ألست بربكم)، فقالوا: (بلى). قال القرطبي: «أخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره، فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم بأنه سيبعث إليهم الرسل، فشهد بعضهم على بعض». ثم إن الله قبض أرواح الجميع وأعادهم إلى صلب آدم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أُخذ منه الميثاق. إن قصة الذر تثبت أن وجود الإنسان يمر بمراحل ثلاث: أولاها عالم الذر. فهذا عالم حقيقي، وكل واحد مِنا شهده ووعاه، لذلك قال الشيخ الطرطوشي: «إن هذا العهد يُلزم البشر، وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة. كما يلزم الطلاق من شُهِد عليه به وقد نسيه». والمرحلة الثانية هي عالم الدنيا. والثالثة هي عالم الآخرة. ويرى بعض العلماء أن فطرة الإيمان أصلها ذلك العهد البعيد الذي أخذه الله سبحانه على الإنسانية. ولذلك قالوا: إن الآية عامة تخاطب جميع الناس، لأن في قرارة كل واحد منهم شعورا بأن له خالقا ومدبرا. وجاء إرسال الرسل تذكيرا بالعهد وإقامة للحجة لما ذهل البشر عن التوحيد. ولذلك كان للإنسان شعور عام وغامض بعالم الغيب، كما قال الشعراوي في ميثاق الذر: «لولا هذه المشاهدة لما استطاع إنسان أن يستوعب قضية الإيمان بالغيب، وفي قمتها الإيمان بوجود إله». لذلك جاء في الحديث القدسي: قال الله عز وجل: إني جعلت عبادي حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. قال أبو العباس القرطبي: حنفاء، جمع حنيف، وهو المائل عن الأديان كلها إلى فطرة الإسلام. والشياطين يعني شياطين الإنس من الآباء والمعلمين، وشياطين الجن بوساوسهم. ومعنى اجتالتهم: أي صرفتهم عن مقتضى الفطرة الأصلية. فقد سبق أن كان لك، أيها القارئ الكريم، وجود قبل الخروج إلى الدنيا، وأنت نسيت ذلك، لكن في أعماق نفسك إحساس بأنك سقطت من السماء وبأنك لا بد سترجع يوما إليها. إن عالم الذر نوع من أنواع الغيب الكثيرة، يدل على أن لهذا الوجود غاية يسير إليها: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون؟).