بوشعيب هبولي فنان تشكيلي مغربي من عيار نادر، وفي حياته الفنية كما حياته الشخصية الكثير من العلامات ومن الألغاز، عاش في مدينة أزمور حيث ولد، وحيث يوجد حي كامل يحمل اسم العائلة «درب الهبولي»، لا يتذكر من ملامح الأم أي شيء، ووالده المعلم البناي «الطاشرون»، لم ينجب غيره، لذلك كتب على الطفل أن يرافق الوالد وأن يعيش تحت سطوته. في بداية السبعينات، سيحدد بوشعيب هبولي مصير حياته بعد وفاة والده، حيث سيقدم استقالته من مهنة التعليم، وسيتفرغ للفن وللحياة، قبل أن يغادر أزمور ويهيم في الرباط مدة 15 سنة، ليعود إلى المدينة الأم شخصا آخر، ناضجا ومستوعبا الكثير من تجارب الحياة وفنانا أصيلا. نلف معه في هذا الحديث الطويل، ذلك المسار الطويل من حياة إنسان وفنان وزمن مغربي حربائي. - هل علمتم بعد 1948، بنبأ هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل؟ هل كانت لكم فكرة عن هذا الموضوع؟ < بطبيعة الحال، لاحظنا في تلك الفترة تناقص عدد اليهود في مدينة أزمور، وكنا نعرف في فترة بداية الاستقلال أن الأمر يتعلق بنوع من النزوح إلى فلسطين، لكن الأمر لم يكن معروفا بشكل كبير عند جميع المغاربة، ولم تتح لنا الفرصة لمعرفة حقيقة الأمور، وكيف أن العملية كانت تقف وراءها جهات يهودية تتاجر في الموضوع من خلال التغرير باليهود، وقد كانت هذه الجهات تقبض الثمن مقابل تهجيرهم إلى إسرائيل. لم تتبين الحقيقة بدقة إلا في مرحلة لاحقة. ولا أعتقد أن الأمر كان يتعلق بنزوح، فلا أحد من المغاربة طردهم. وكل ما حصل أن مسؤولين نافذين في الدولة في تلك الفترة تاجروا باليهود، حيث كان يتم تجميعهم من كل أنحاء المغرب في المطار، الذي يسمى بمطار أنفا، الذي كان في حقيقته ثكنة عسكرية. في ذلك المطار كان يتم تجميع اليهود وترحيلهم بعد ذلك، كما كانت هناك طرق أخرى، من بينها أنه كان يتم تسليم جوازات سفر لعدد من اليهود مما مكنهم من العبور بشكل عاد عن طريق إسبانيا وفرنسا. وحتى في أواخر الخمسينيات، كانت توجد في ميناء الدارالبيضاء مراكب وسفن، تشتغل في الخطوط البحرية التالية: خط الدارالبيضاء السنغال، وخط الدارالبيضاء مارسيليا، وخط الدارالبيضاء بوردو، لكن هذه الخطوط لم تعد موجودة اليوم. كما أنه في تلك الفترة كانت مرسى الدارالبيضاء مفتوحة، وكان بالإمكان زيارة هذه السفن الكبيرة المخصصة لنقل المسافرين. - وكيف عرفت بوجود هذه السفن في الميناء؟ < الحقيقة أنني تعرفت على هذه السفن عن طريق زيارة قمت بها رفقة والدي إلى مرسى الدارالبيضاء في أواخر الخمسينيات، ومن غريب الصدف أن الوالد اصطحبني إلى مركب كبير يحمل اسم أزمور. - نفهم من هذا أن علاقتك كانت وطيدة بالوالد، أي أنك كنت طفله المدلل؟ < لم أكن مدللا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن بما أنني كنت ابنه الوحيد وبما أن والدتي كانت قد رحلت عن الدنيا وأنا في المهد، فإن والدي لم يكن يطمئن بتركي في يد أي كان، ولذلك ربطتني بوالدي علاقة خاصة جدا، وكنت أصحبه أينما حل وارتحل. - لم يكن يتركك حتى تخرج للعب مع الأقران في الزنقة؟ < ليس إلى هذه الحدود، ولكن بما أننا كلنا أبناء تربية تقليدية، فإن مفهوم الزنقة كان له معنى سلبي، كان لفظ أولاد الزنقة يحمل تعبيرا قدحيا، ولذلك كان الوالد يحاول ما أمكن أن يوجد حائلا بيني وبين» الزنقة»، لقد كان يريد أن يخضع ابنه الوحيد لتربية خاصة على يديه. - كنت وحيد العائلة ويتيما، هل كنت تحس مثلا بوحدة ما، أو بحاجة إلى إخوة وأخوات يشاركونك اللعب ويحمونك من الأقران؟ < ربما احتضان الأب وحدبه علي لم يشعراني بمرارة اليتم أو بأني بحاجة إلى إخوة، فقد كنت أرافقه باستمرار ولا أفارقه في فترات العطل التي كنا نقضيها في البادية. - أين كانت توجد باديتكم؟ < لم نكن بعيدين عن أزمور، كانت باديتنا على مبعدة خمسة أو ستة كيلومترات، في منطقة الحوزية، وهي منطقة فلاحية معروفة في مدينة أزمور بأراضيها الفلاحية الخصبة. - ما اسم دواركم؟ < اسمه دوار لهبابلة، إنه قبيلتنا. - ولذلك كنت تزور لهبابلة كثيرا؟ < بالفعل، لأن والدي كان يحرص على الإشراف على جني المحصول الفلاحي، وبالأخص في الصيف، في فترة الحصاد، وبالتالي كنا خلال موسم الصيف نحزم أمتعتنا ونولي وجهنا شطر دوار لهبابلة، ونظل هناك إلى غاية انتهاء الأعمال الفلاحية، ثم نعود بعدها إلى أزمور. كان الأمر يشبه سفرا. أما أسفاري مع الوالد إلى الدارالبيضاء، فقد كانت في فترة بعيدة، ولكني لا أتذكر الأسفار الأولى بحكم صغر سني حينها. - كان الوالد مقاولا للبناء «طاشرون»؟ < كان مقاولا للبناء بالمعنى التقليدي، كانت مداخليه تكفيه. لم يكن والدي «طاشرون» بالمعنى العصري، وكما تعرف، كانت مواد البناء في الخمسينيات من القرن الماضي لا تتجاوز «الحجر والبغلي»، ثم بدأ المغاربة يبنون بيوتهم شيئا فشيئا بواسطة الإسمنت المسلح، لكن الغالبية العظمى كانت تقيم سقوف بيوتها ب»البرومي والكيزة». - كنت تزور الوالد في ورش البناء؟ < لما بدأ يشتد عودي كنت أزور الوالد أثناء عمله، وكان وقتها ينتقل من منزل إلى آخر، وقد كانت هذه الزيارات بالنسبة إلي اكتشافا آخر.. بدأت أكتشف «المعلم» و«المتعلم» ومواد البناء، وطريقة البناء والشكل الهندسي، وطقوس عمال البناء، ففي الصباح كانوا يصلون على النبي بتلك الطريقة الحماسية وفي المساء كانوا يهللون ويكبرون، زيادة على طريقة إدارة ورشة البناء والعلاقات اليومية للبنائين وتراتبية المهنة، إذا جاز التعبير. كما أن الوالد كان يصحبني إلى المحافل الدينية وإلى الحفلات الخاصة بالمولد وما شابه ذلك، علاوة على الكثير من الولائم التي كان يقيمها والدي في بيته. - كنت تحس بأنك أكبر من سنك، أو كما يقول المغاربة «كبرتي قبل من الوقت»؟ < بالضبط، هذا ما حصل، كنت أحس أني رجل ناضج في هيئة طفل، وكان أن وجدت نفسي أقرأ الجرائد، وهي عادة لم تكن تقوم بها إلا قلة من الرجال الكبار المتعلمين. كنت أحس بأن هناك هيمنة للأب على حياتي، لكني كنت أحس بأني طفل آخر، وأن طفولتي شيء مختلف، ولا تشبه طفولة الآخرين. - ومتى بدأت تنفصل عن هيمنة الأب؟ < لما بدأت أتقدم في السن وأنضج، بدأت أنضج وأتعرف على العالم بمفردي، وأصبح لي أصدقاء، وبدأت أخرج مع رفاقي، خارج المدينة. في هذه الفترة بدأت أتحرر شيئا فشيئا.