سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
باطما: «كان الكثير من أصحاب الدراجات لا يثقون بي لأنني لا أتوفر على شارة ولست عجوزا» قال إن عبد الرحمان لطرش كان يبحث عن أشخاص يحترفون صناعة القصب لكنهم مصابون بخلل عقلي
بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... للراحل العربي باطما حكايات طويلة مع الألم والمعاناة، بدءا بالفقر، مرورا بضيق سبل العيش، ووصولا إلى إصابته بداء السرطان، الذي أسكت -للأسف- البحّة الجملية إلى الأبد، إلا ما تسنى أن تحفتظ به الذاكرة الشعبية وتوثقه أرشيفات الإذاعة والتلفزة.. تنقّل الفنان «بّاعْرّوب» بين العديد من المهن، قبل أن ينتهي به المطاف كفنان يعيش على ما يجنيه بفنه وإبداعه.. فقد اشتغل باطما في مرحلة من حياته حارسا للدراجات في الحي المحمدي. وعن هذه المحطة، يقول في الصفحة 63 من كتاب «الرحيل»: «إن حراسة الدراجات فن... فهي أخذ ورد مع الزبون وتعامل وثقة، فالزبون لا يثق في الحارس إلا إذا رأى الشارة في صداريته، أو كان رجلا عجوزا... أما أنا، فلم تكن لي هاته الأشياء.. ولهذا فقد كان الكثير من أصحاب الدراجات لا يثقون بي، فيسألونني من أنا ومن هو صاحب المحل؟.. وكثيرا ما كنت أغتاظ وأتعارك مع الزبناء، الشيء الذي أثار ثائرة «لحسن شارلو»، صاحب المحل، فتعاركنا وغادرتُ الحراسة... ثم اشتغلت، بعده، كقصاب في الحي الذي كنت أسكنه في «طريق الرباط».. وحرفة القصب حرفة الأوساخ والدم والمعاناة... كان صاحب الورشة رجلا أطرش يُدعى عبد الرحمان لطرش، يشتغل في ورشته عدد من «لمعلمين» والمساعدين و«المتعلمين». «لمعلمين» يصنعون سلال القصب والمساعدون، وأنا من ضمنهم، يزيلون أوراق القصب الجافة، أي ما يسمى بلغة تلك الحرفة «تقشار». أما العُدّة فهي خنجر كبير وحاد... فترى الأصابع دامية، ويمتزج لون الدم بلون القصب، بينما الكل يتحدى الجروح ويتابع عمله»... ويواصل «بّاعْرُّوب» رحلة النبش في ماضي الفقر في الحي المحمدي بالقول: «كان عبد الرحمان لطرش يربح الأموال الطائلة، لأنه كان يبيع السلال ويصنع أغلفة قصبية لزجاجات كبيرة، كان معمل الزجاج يُصدِّرها إلى الخارج في ذلك الزمن، وكان ذلك الرجل من أكبر مستغلي العمال الذين صادفتهم في حياتي، فلقد كان يبحث عن أشخاص يحترفون تلك الحرفة، لكنهم مصابون بخلل عقلي، بل كل الذين اشتغلت كمساعد لهم، كان لهم مرض من هذا القبيل، ولم أدرِ، حتى الآن، كيف وأين كان يعثر على أولئك الأشخاص؟ أشخاص ردوا من مستشفى «الحماق»، وعلى وشك الرجوع إليه: «لمعلم موحا، لمعلم بوعزة، لمعلم أبيي، لمعلم عبد القادر» وآخرون. أشخاص ضربهم الزمن بمعول البؤس والمرض، وانتهى بهم المطاف إلى ورشة عبد الرحمان لطرش، يتقاضون ثمنا هزيلا يوفر لهم غذاء من «الماطيشا والبصلة» وفطورا بكأس شاي وخبز حاف... ولقد كان هناك عامل مشترك بيني وبينهم ألا وهو تدخين الكيف. لقد كنا حشاشين، حتى العبادة... قد لا نأكل ونشتري الكيف، القنب، وباقي أسماء ذلك السم التي ابتدعها الحشاشون: «التكرور»، «العيسى»، «العشبة»، «التكييفة»... كل معلم أو متعلم له غيلونه وتكييفته يخاف عليهما ويختفظ بهما داخل جيبه... وكما قلت، كان شغلنا نحن المساعدين هو «تقشير» القصب من أظلافه. مائة قصبة «حزمة»، حسب تعبير تلك المهنة، بخمسين سنتيما، ثمن بطيقة «الكيف»، كان النهار بخمسين سنتيما. عمل يوم منذ طلوع الشمس إلى غروبها بخمسين سنتيما! لمتعلم «عبد النبي» لمتعلم «دبيش»، لمتعلم «حلوفة»، لمتعلم «عبد العزيز»، المتعلم «حليف»، وآخرون. شباب اختلفت وسائل العيش بالنسبة إليهم. شباب في سن الورود وسط ورشة، وسط خربة، يحفُها سور لا باب له، بل كنا نصعد فوق سقاية الدرب ثم ننطُّ إلى داخل الخربة، لأن عبد الرحمان لطرش كان يستغل ذلك المكان من غير علم السلطة، أما مقدم الحومة، أي الذي سيبلغ ذلك إلى الدوائر الرسمية، فلقد كان صديقه، وهكذا كان وظل الوضع... ورشة، يشتغل بها قوم تخطاهم الزمن... كنا نسمي تلك الورشة «جهنم»، لأن حرارة الشمس وسط عش من القصب تسكنه العقارب والأفاعي لا يمكن تسميتها إلا بذلك الاسم.. أما سكان الدرب، فقد سمونا الهاربين من جهنم، تمثلا بفيلم هندي كان هذا اسمه... في البرد القارس والشتاء، أو في الصيف، لا يستر رؤوسنا إلا قش من أوراق القصب، عيدان الخرواع، الذي كان يُستعمل في صنع السلال... ولا أنسى لمعلم بوعزة، رجل تجاوز الخمسين سنة، قوي البنية، له شارب كقرن الثور، عريض الوجه والأكتاف، طويل القامة إلى أن انحنت... قضى شبابه في البادية ثم التحق بالحملة العسكرية، التي توجهت لمحاربة الألمان، ومن هناك، ولما رجع إلى المغرب، اشتغل في حرفة القصب، لكنه احتفظ بجنونه أو احتفظ به جنونه... كان جنونه غريبا ومضحكا في نفس الوقت.. فقد كان كلما مرت طائرة في السماء وسمع هديرَها يبدأ يصيح ويستغيث برجل فرنسي اسمه «جاك» ويتكلم بفرنسية ركيكة، ويختبئ وسط السلال وأكواخ عود الخرواع، إلى أن تبتعد الطائرة... وكم من مرة، صادف مرور طائرة وقت غذائه، فيهرق الأكل لمّا تأخذه تلك النوبة.. عندما تبتعد الطائرة، يعود المسكين إلى مكانه، وقد ظهر الحزن عليه، فيبدأ في لم أكله من فوق التراب ثم ينظفه، ويتابع أكله»... يتبع