الحلقة الخامس عشر : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected] لنعد إلى الندوة التي عقدت في الدارالبيضاء بفندق «روايال منصور» حول «كتاب ذاكرة ملك» والحفل الذي تلاها. هل حضر هذا الحفل الوزير الأول كريم العمراني؟ -ليس العمراني فقط، بل كانت هناك مفاجأة كبيرة. لكن دعني أروي لك بعض الملابسات، التي سبقت تنظيم الندوة والحفل. إذ ذهبت شخصيا للتفاوض مع إدارة فندق «رويال منصور» حول ترتيبات الحفل من جميع الجوانب الإدارية والمالية، أي ماذا سيقدم للضيوف من مأكولات ومشروبات، والرواق الذي سيوضع فيه الكتاب والملصقات وما إلى ذلك من تفاصيل. خصصت «الشرق الأوسط» ميزانية لتغطية جميع النفقات، لكن إدارة الفندق طلبت سعرا كبيرا لقاء ما ستقدمه من خدمات، سواء على صعيد الندوة أو الحفل، فوقعت فعلا في حرج شديد لأن الميزانية التي رصدت لتغطية النفقات كانت تقل عن نصف ما تطلبه إدارة الفندق، وتمثل الحرج في أن الكتابة الخاصة للملك هي التي طلبت أن ينظم الحفل في فندق «رويال منصور». كان الوقت قصيرا لتحويل مبالغ إضافية من إدارة الصحيفة، ثم إن إدارة الفندق طلبت التسديد مباشرة بعد انتهاء الحفل ودون إبطاء. طالت المفاوضات مع إدارة الفندق، والواقع أن العملية استغرقت وقتا طويلا. وعندما أبلغت الأخ عثمان العمير بالوضع، طلب حسم الأمر بأي طريقة، لأنه لم يتبق لنا متسع من الوقت، وقال بطريقته المعهودة عندما يريد حسم أمر ما: «تحمل مسؤوليتك». حدث انفراج جزئي للموضوع عندما قررت شركة «سابريس» أن تتكفل بكل ما له علاقة بالرواق الذي سيعرض فيه الكتاب داخل الفندق. جاءت المفاجأة قبل 24 ساعة من موعد الحفل في يناير 1993، إذ اتصلت الكتابة الخاصة للملك بالأخ عثمان العمير وأبلغته بأن الذي سيحضر الحفل هو ولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد (جلالة الملك محمد السادس) رفقة الأمير مولاي رشيد، إضافة إلى محمد كريم العمراني وإدريس البصري، وزير الداخلية والإعلام آنذاك، وشخصيات أخرى. جاء هذا الخبر المفاجأة وأنا ما زلت أتفاوض مع إدارة الفندق لعلها تخفض من السعر الذي حددته أول مرة مقابل ما ستقدمه من خدمات. وفي تلك اللحظة تحملت مسؤوليتي بالكامل، إذ لم يعد هناك أي مجال لخيار آخر، حيث أبلغت إدارة الفندق بقبول ما يقترحونه من سعر. ماهو السعر الذي طلبته إدارة فندق «روايال منصور» نظير إقامة هذه الندوة حول «ذاكرة ملك»؟ -لم أعد أتذكر الرقم بالتحديد، لكن أتذكر أن المدير التجاري للفندق كان هو الذي يتفاوض معي حول التفاصيل والسعر، وفجأة اختفى الرجل كما لو أن الأرض انشقت وابتلعته. أذكر أني عندما اتصلت بإدارة الفندق قالوا لي إن كل شيء سيسير كما تم الاتفاق عليه، وأن «الشرق الأوسط» لم تعد لديها أدنى مسؤولية بالنسبة لتسديد الفاتورة. اندهشت كثيرا لهذا التغيير المفاجئ، لكن سأعرف فيما بعد أن الكتابة الخاصة للملك هي التي تكفلت بكل شيء، وقيل لي وقتها إنه لا يستقيم عقلا أن يقام حفل في المغرب وحول كتاب للملك، ويحضر الحفل ولي العهد والأمير مولاي رشيد، ثم تسدد جهة ما، أيا كانت، نفقات الحفل. أبلغت الكتابة الخاصة للملك الأخ عثمان العمير بالترتيبات، التي تقضي باستقبال ولي العهد والأمير مولاي رشيد والشخصيات الرسمية عند مدخل الفندق، وبعد ذلك مرافقتهم إلى حيث يوجد الرواق الذي وضعت فيه نسخ الكتاب، إضافة إلى ملصقات حوله وتقديم شروحات حول المراحل التي مرت منها عملية مراجعة وطبع وتوزيع الكتاب، ثم بعد ذلك يلقي عثمان العمير كلمة الصحيفة، ثم كلمة محمد برادة موزع الكتاب، وتختتم الفقرات بحفل استقبال. وماذا كانت مهمتك أنت؟ بما أنني تابعت جميع التفاصيل المتعلقة بالكتاب وطباعته طلب مني عثمان العمير أن أشرح لولي العهد والأمير مولاي رشيد المراحل التي مر منها الكتاب، عندما يزوران الرواق الذي توجد فيه نسخ الكتاب. كان شعوري مزيجا من الانفعالات، إذ كانت المرة الأولى التي سأتحدث فيها إلى ولي العهد آنذاك (جلالة الملك محمد السادس)، إذ سبق لي أن سلمت عليه مرارا، لكن لم تتح لي فرصة الحديث معه. سارت الأمور بالطريقة التي خطط لها. كنت رفقة عثمان العمير في مدخل الفندق في استقبال ولي العهد والأمير مولاي رشيد وباقي الشخصيات، وكان معنا كذلك محمد برادة مدير عام شركة «سابريس». بعد ذلك انتقلنا إلى الرواق الخاص بالكتاب داخل الفندق، وشرحت لولي العهد، بالتفصيل، المراحل التي مرت منها عملية مراجعة وتصحيح النص الأصلي وطباعة الكتاب. هل تتذكر شيئا قاله لك ولي العهد سيدي محمد آنذاك؟ -أقول بكل أمانة إنه طرح علي أسئلة دقيقة جدا حول الطباعة، وعدد النسخ التي طبعت والصفحات ونوعية الطباعة، وأذكر أنه سألني لماذا اخترنا أن تكون هناك نسخ فاخرة وأخرى عادية وكيف تمت هذه العملية. وفي ختام الجولة سألني مبتسماً: «أنت ما رأيك في هذا الكتاب؟». كان جوابي أن «الكتاب، ونظرا لوفرة المعلومات، يحتاج إلى أكثر من قراءة، وأنا قرأته مرات في الأصل، لكن قراءتي ركزت على الصياغة والتراكيب والبحث عن الأخطاء الإملائية أو النحوية أو الطباعية». وقلت له أيضاً: «أعتقد وبكل موضوعية أنه يحتاج إلى قراءة هادئة، وأكثر من مرة». وهذا ما يحدث. فحتى الآن ما يزال الكتاب موجودا فوق مكتبي كما ترى، أبحث فيه بين الفينة والأخرى عن تفاصيل واقعة، أو أعود إلى رأي الملك الراحل بشأن مسألة ما. بعد الجولة في الرواق، جلس الجميع في المقاعد المخصصة لهم، وقدمت شخصيا لولي العهد والأمير مولاي رشيد برنامج الحفل، وكنا قد توخينا ألا يكون طويلا وألا يتجاوز نصف ساعة. وتشتمل فقراته على كلمة عثمان العمير، رئيس تحرير «الشرق الأوسط»، تسبقها كلمة محمد برادة مدير عام شركة «سابريس»، التي كانت تتولى توزيع الكتاب. لكن الحفل شهد واقعة مفاجئة وهي برمجة كلمة لإدريس البصري في آخر لحظة. ما هي ملابسات هذه الواقعة؟ -نعم، هذا ما وحصل بالضبط، وقد ألقى إدريس البصري كلمته مكتوبة، وبدا مترددا في إلقائها. هل أنتم الذين اقترحتم أن يلقي إدريس البصري كلمة؟ -لا. جاء عندي صديق معنينو، مدير الإعلام وقتها، وطلب مني أن أضع ضمن البرنامج كلمة لوزير الداخلية، لكنه لم يكن متأكدا من الأمر، أي أن هذه الكلمة ستبقى مجرد احتمال، وفهمت أن البصري كان ينتظر الضوء الأخضر من ولي العهد حتى يلقي كلمته. كان مترددا ولم يبادر، وكان يتطلع ناحية ولي العهد، إلى أن قال له: «ألق كلمتك»، فشعرت وقتها أن هناك أمرا ما. كان مترددا؟ نعم كان مترددا، ولم يكن يريد أن يلقي الكلمة حتى يتلقى إشارة، ولا أستطيع أن اجتهد أكثر من ذلك. انتهى الحفل بشكل جيد، وودعنا ولي العهد والأمير مولاي رشيد. أقيم الحفل يوم الخميس، وبقينا مع الضيوف، الذين دعاهم الأخ عثمان العمير يومي السبت والأحد، حيث كانوا يقيمون في فندق «رويال منصور». صباح السبت تلقى الأخ عثمان العمير هاتفا من الكتابة الخاصة للملك، حيث أبلغ أن الملك الحسن الثاني سيستقبل جميع المفكرين والمؤرخين والكتاب، الذين جاؤوا إلى المغرب، في إقامته الخاصة في الرباط وليس في القصر الملكي. شخصيا ساورتني الشكوك في أن يتم ذلك اللقاء، وأبلغت الأخ العمير بهذه الشكوك. قلت له: «منذ أن جئت إلى هذا البلد لم يحدث أن قام الملك الحسن الثاني بأنشطة يوم الأحد، وإذا حدثت ستكون سابقة». كان رأيه أن نحتاط للأمر في كل الأحوال، ونستعد للقاء الملك، طالما أن هناك إخطارا رسميا. وراحت الأمور تتأكد صباح الأحد، حيث أبلغنا بأن نتوجه إلى الرباط. وهنا ستحدث مسألة محرجة انزعج لها الأخ العمير كثيرا. كانت من بين المدعوين أستاذة تاريخ من اليمن الجنوبي، قبل الوحدة بين شمال وجنوب اليمن. تلك الأستاذة أبلغت بعض المدعوين بأنها عندما ستلتقي الملك الحسن الثاني ستطلب منه الجنسية المغربية. هنا سيطلب مني عثمان العمير القيام بمهمة في غاية الصعوبة، إذ قال لي أن أذهب إلى السيدة وأشرح لها بأنها مدعوة كأستاذة تاريخ للمشاركة في قراءة كتاب وليس لطلب جنسية. والإشكال أنها كانت السيدة الوحيدة ضمن 17 شخصية وازنة، وعدم حضورها سيجعل جميع الحاضرين من الرجال في حرج. كان موقفاً من المواقف المحرجة التي لا أنساها. ذهبت إليها واقترحت عليها بأن نتناول فنجان قهوة في مقصف الفندق، سألتها: «هل صحيح أنك ستطلبين من الملك الحسن الثاني منحك الجنسية المغربية»، وكان جوابها أنها فرصة لا تعوض وهي فعلا ستفعل ذلك. قلت لها بصراحة: «أنت ستضعيننا في حرج شديد، وأقترح عليك أن تؤجلي طلبك في انتظار أن تتاح لك فرصة لقاء آخر مع الملك، لأن هذا استقبال له موضوع واحد وهو الحديث عن كتاب «ذاكرة ملك» ولا يجوز أن يتحول إلى لقاء لتحقيق أغراض شخصية». ثم اجتهدت اجتهادا بدا لي معقولا، إذ سألتها «لماذا لا تتقدمين بطلب مكتوب تسلمينه للكتابة الخاصة للملك، أما إذا أصررت على فكرتك بطلب الجنسية من الملك، فإننا مضطرون لإبلاغ الكتابة الخاصة بالموضوع، ووقتها ربما لن يسمح لك بمرافقة المدعوين». قالت: «إذن سأكتب طلبا وأسلمه للكتابة الخاصة»، قلت لها «هذا أمر لا دخل لنا فيه». بعدها ستغادرون الدارالبيضاء في اتجاه الرباط؟ نعم، ذهبنا في الوقت المحدد إلى فندق هيلتون في الرباط، ومنه إلى الإقامة الملكية الخاصة، وعندما وصلنا إلى هناك، وبقينا ننتظر في قاعة جانبية فترة قصيرة، جاء خلالها عبد الحق المريني، مدير التشريفات والأوسمة، وطلب من عثمان العمير تقديم الضيوف إلى الملك، فخمنت أن التشريفات الملكية لم تكن لديها الأسماء كاملة، أو أن ذلك كان رغبة الملك شخصيا. فوجئ عثمان العمير بهذا الطلب، إذ كيف سيكون ترتيب المدعوين. إذ ربما لا يرضى أحد إذا بقى في آخر الصف مثلا، ونحن نعرف الحساسية التي يشعر بها المفكرون والمثقفون في مثل هذه الحالات. سألني العمير عن رأيي في هذا الإشكال البروتوكولي، وبكل صدق هبطت علي فكرة وليدة تلك اللحظة، قلت له: «لا حل لدينا سوى أن نعتمد الحروف الأبجدية العربية، وحتى لا يصعب الأمر، نعتمد الاسم الأول، على أن نبقى أنا ومحمد برادة في آخر الصف». ولعل من حسن الحظ أن أول واحد كان سيتقدم للسلام على الملك، طبقا لهذه الفكرة، هو الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، يليه الكاتب الفلسطيني بلال الحسن، ثم الشاعر العراقي بلند الحيدري. وراقت الفكرة عثمان العمير، وكان ذلك قبل دقائق من تقدمنا للسلام على الملك. عثمان العمير تكفل إذن بتقديم الضيوف؟ - نعم، وفعلا تقدم الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي للسلام على الملك الحسن الثاني. وعند ذلك اقترب أندري أزولاي من الملك وهمس له بشيء. خمنت شخصيا أن يكون ذلك إشارة إلى أهمية وثقل شخصية إميل حبيبي، صاحب كتاب «المتشائل» والقيادي في الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهو من كبار اليساريين الفلسطينيين، وكان عضوا في الكنيست الإسرائيلي. وماذا قال الحسن الثاني لإميل حبيبي؟ - رحب به بحرارة وقال له: «بصراحة لا أعرف هل نرحب بك أم نعاتبك، لأنك تأخرت كثيرا في زيارتنا». شخصيا عندما لاحظت أن الملك الحسن الثاني بعد أن سمع اسم إميل حبيبي، أمال رأسه وابتسم، فتوقعت أن يقول كلاما جميلاً، وحدث ما توقعت. بعد ذلك سارت الأمور كما كان مقررا لها، حيث تقدم 17 كاتبا ومؤرخا ومفكرا للسلام على الملك، واحدا تلو الآخر، وتولى عثمان العمير تقديمهم واحدا واحدا، كل واحد بصفته مع نبذة مختزلة. وكان واضحا ارتياح الملك وهو يرحب بهم جميعا. ثم قدم العمير محمد برادة، مدير عام «سابريس»، وقال للملك إن الشركة هي التي ستوزع الكتاب في المغرب، وكنت آخر من سلم على الملك. هنا قال عثمان العمير: «هذا طلحة جبريل الذي أشرف على جميع المراحل». ورد الملك بجملة واحدة: «سي جبريل تبارك الله عليك. لن أنسى لك هذا الشيء». كان ذلك اللقاء الخامس مع الملك الحسن الثاني. بعد ذلك طلب منا الدخول الى صالون كبير وضعت فيه مشروبات وحلويات، وتجول الملك على الحاضرين، وهو يدعوهم إلى تناول ما يريدون، ثم بعد ذلك دخلنا إلى صالون صغير جانبي، حيث بدأ حوار بين الملك والحاضرين. أنتم الآن داخل القصر الملكي بالرباط؟ - لا، نحن داخل إقامة ملكية، وهي مجاورة للقصر الملكي. وكيف بدا الحسن الثاني في هذا اللقاء معكم؟ - كان مزاجه رائقا، أذكر أنه أشعل سيجارة في بداية هذا اللقاء، وقال مخاطباً الجميع: «حتى لا أدخن لوحدي، أطلب من المدخنين فيكم أن يدخنوا». هنا التفت عثمان العمير نحو المكان الذي يجلس فيه الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري، رحمه الله، وقال: «يا جلالة الملك بلند لا يكف عن التدخين»، وفعلا أخرج بلند الحيدري سيجارة وراح يدخن. وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها شخصا يدخن أمام الملك. كان المعتاد هو أن يدخن الملك، ولكن لا أحد كان يجرؤ على التدخين أمامه. بعد ذلك قال الملك: «من يريد منكم أن يسأل سؤالا فليتفضل، لكن هذا الحوار ليس للنشر». أتذكر أن عبد الرحمن الراشد، مدير قناة «العربية» حاليا، وكان وقتها رئيس تحرير مجلة «المجلة»، هو أول من بادر بطرح سؤالين في غاية الأهمية، وكان موفقا للغاية في طرحهما. قال عبد الرحمن الراشد: «جلالة الملك هل مارست الرقابة على نفسك عندما كنت تجيب عن الأسئلة التي طرحت عليك في كتاب «ذاكرة ملك»؟»، فأجاب الملك «معلوم.. لابد من ذلك. مع رجل الدولة دائما لا يوجد سؤال محرج، بل هناك إجابات محرجة، لذلك لابد من رقابة ذاتية»، وهي من أجمل الجمل التي سمعتها من الملك الحسن الثاني. بعد ذلك استأذن عبد الرحمن الراشد في أن يطرح سؤالا خارج الكتاب، ثم يعود إلى الكتاب. قال الراشد: «ألا تخشى يا جلالة الملك من وصول الأصوليين إلى الحكم؟ أو محاولتهم الاستيلاء على الحكم؟». أتذكر أن الملك الحسن الثاني أجاب جوابا لافتا قال فيه: «تعرفون أن أحد أجدادي اسمه المولى سليمان، وفي مرة من المرات جاؤوا عند مولاي سليمان، وقالوا له إن هناك فقيها لا يدعو لك في المنابر، بل يدعو ضدك، فذهب مولاي سليمان إلى المسجد وصلى خلف ذلك الفقيه»، مشيراً إلى «أن الملوك العلويين لا يؤمون الناس، حيث يكون هناك دائما إمام للصلاة». واستطرد الملك يقول: «بعد أن انتهى الإمام الفقيه من الصلاة وألقى خطبتين، خاطبه مولاي سليمان قائلاً: أيها الفقيه اجلس في محرابك. ونادى خدم القصر ليحضروا له كرسيا اعتاد أن يجلس عليه عندما يكون في القصر، وقال له: أيها الفقيه أنا ما عمري ندخل في محرابك ولن أسالك ماذا تعمل فيه، وأنت ما عمرك تصل هذا الكرسي أو تتدخل فيه، أي أنت لك الفقه والدين لن أقترب منه، وأنا لي الحكم فلا تقترب منه». ثم أضاف الملك الحسن الثاني يقول في رده على الأخ الراشد: «أنا أقول للأصوليين الشيء نفسه. لن أدخل في مجال الفتاوى، ولكن كرسي الحكم تحكمه بيعة لا يأتون لينازعوني فيها»، ثم أضاف: «الحكم في المغرب تحكمه البيعة، والبيعة يقوم بها المغاربة». وكان جوابا بليغا أراد فيه الملك الحسن الثاني أن يقول: «لا أنازعكم في أمور الدين، لكن لا تنازعوني في أمور الحكم». ثم توالت الأسئلة، وبدا الملك منشرحا ومنطلقا، على الرغم من أن الأسئلة كانت كثيرة جدا ومتشعبة وعميقة، لأن جميع الحاضرين كانوا من عيار كبير، سواء على مستوى الفكر أو درايتهم بالتاريخ. وبعد حوالي نصف ساعة، قال الملك موجها الحديث إلى عثمان العمير: «للأسف لدي التزام (لم يحدده). هذه الجلسة لا تمل وأنا أطلب منك يا عثمان أن تأتي بأصدقائك هؤلاء مرة أخرى حتى نتحاور بعمق أكثر». وما هو الانطباع الذي خرجت به من هذه الجلسة؟ - شخصيا، خرجت باقتناع مفاده أن الملك الحسن الثاني يروقه جدا أن يحاوره من لهم معه خصومة فكرية، وعدد كبير من الذين حضروا تلك الجلسة، إما من اليساريين أو من أولئك الذين مروا على اليسار خلال مسارهم السياسي والفكري. وأعتقد أن الملك كان منشرحا لهذا السبب، ولا شك أنه قرر لذلك أن يخصهم باستقبال مساء الأحد، وهو أمر نادر جدا، حتى لا أقول استثنائيا. بعد هذا اللقاء الخامس مع الملك الحسن الثاني، هل معنى هذا أن علاقتك بالقصر أصبحت «علاقة خاصة»؟ -لا يمكن الحديث عن «علاقة خاصة» مع القصر. هذا سيكون ادعاء، ولكن المؤكد أني أصبحت معروفا في أروقة القصر الملكي. بعض الناس كانت لهم تفسيرات متعددة لهذا الوضع، وكثيرون دائما كانوا يبحثون في هذه الأمور وعما يترتب عنها من فوائد مادية أو مالية، وذلك لم يكن صحيحا على الإطلاق، ولم يشغل بالي قط. كنت سعيدا جدا أن أكون صحفيا يحظى بتقدير من طرف ملك في وزن الملك الحسن الثاني، إذ كان إنجازا مهنيا لا يمكن أن يقدر بثمن. لكني لم أجن ولو سنتيم واحد لقاء ذلك، ولم أنشغل بهذه السفاسف. ألم تلتق الحسن الثاني بعد ذلك؟ - التقيته أثناء الزيارة التي قام بها إلى الولاياتالمتحدة في مارس 1995. تقصد الزيارة التي سيكتشف فيها أنه مريض؟ - لا، كانت تلك زيارة أخرى. كان من بين أهم جولات المحادثات التي أجراها الملك الحسن الثاني مع وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر أيامئذٍ، وكانت من بين الأمور التي طرحها الملك مع كريستوفر قضية لوكوربي. سمعت هذا الخبر خلال دردشة عابرة مع الطيب الفاسي الفهري، وكان وقتها كاتبا للدولة في الخارجية، فبادرت إلى نشره. ذلك الخبر أثار انزعاجا وسط الوفد المغربي، ويبدو أن الملك أراد أن يكون موضوع لوكوربي خلف الأبواب الموصدة. حضرت جميع الأنشطة، التي جرت في واشنطن، ثم انتقلنا إلى نيويورك لمتابعة أنشطة الملك هناك. وكان من بين الأمور التي أثارت انتباه الأمريكيين هو جوازي السوداني الموجود وسط الجوازات المغربية، والذي أرسل إلى القنصلية الأمريكية في الدارالبيضاء، على اعتبار أني عضو في الوفد المغربي، ولم يكن أحد يفهم حكاية ذلك الجواز، لأني أرسلت الجواز إلى الديوان الملكي، الذي أرسله بدوره إلى القنصلية الأمريكية. إذن هذا اللقاء هو آخر لقاء لك مع الحسن الثاني. - نعم، كان ذلك آخر لقاء مع الحسن الثاني، حيث سلمت عليه في نيويورك، لأني في السنة الموالية سأجبر على الاستقالة من «الشرق الأوسط». كان في الواقع قرارا مقنعا بفصلي عن صحيفة عملت معها زهاء 17 سنة.