يسعى الكاتب، من خلال هذه الخواطر الرمضانية، إلى دعوة المؤمنين إلى الارتقاء بممارساتهم اليومية خلال شهر رمضان المبارك، باعتبار هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا، الماضي منها والقادم، كما أنه يأتي ليدفعنا إلى وقف هذا السباق المحموم على الدنيا وعلى المنافسة المحتدمة من أجل الاستهلاك ولا شيء آخر غير الاستهلاك، الذي يُنْسي الإنسانَ الكثيرَ من القيم الجميلة التي يستعيدها في أيام رمضان الروحانية... من القضايا التي تعتبر مفاتيحَ حقيقيةً لفهم تاريخ التشكل الغربي وسياقه الحضاري الخاص: مبدأ التقدم، الذي يقول عنه الأستاذ المسيري: «يجب أن ندرك أنه هو الركيزة الأساسية للمنظومة المعرفية المادية الغربية الحديثة، وهو الإجابة التي تقدمها على الأسئلة النهائية التي يواجهها الإنسان: من أنا؟» إن فكرة التقدم -كما يقول عالم الاجتماع الروسي شانان- من أقوى الأفكار الإيديولوجية الغربية، ومن أهمها على الإطلاق. ما التقدم؟ كتب لاروس في موسوعته الشهيرة: إن التقدم هو «فكرة أن الإنسانية تنتقل، كل يوم، من حال إلى ما هو أحسن منه، وأنها، كل يوم، أكثر سعادة. وهذه الفكرة بالخصوص عزيزة جدا على أهل عصرنا». جذور المفهوم إذا كان عصر النهضة الأوربي قد أُعجب بتراث الحضارتين الإغريقية والرومانية، فإنه سرعان ما تعالت الدعوات إلى تجاوز هذا التراث، فالغاية هي تحسين ظروف الحياة البشرية في سبيل تحقيق سعادة أفضل للإنسان: إن تقدم البشرية هو الهدف، كما يرى فرنسيس بيكون، والعلم في نمو مستمر، لذلك دعا إلى نزع هالة التقديس التي أسبغها معاصروه على القدماء. كما اعتبر فونتونيل أن التقدم خط ثابت، حتى لو افترضنا أن هذه الفكرة مجرد وهم، فإنها «وهم مفيد»، لتسريع النشاط البشري. إن العقل البشري يرث ويستبطن مجمل المعرفة التي وصل إليها السلف، ثم يضيف إليها ويزيدها قوة وعمقا.. في حركة مستمرة ولا نهائية من التحسن والاكتمال.. ويدعو فونتونيل الأجيال القادمة، أيضا، إلى تجاوز عصره، هو كذلك.. وفي سنة 1751، وضع تورغو مخطَّطا لكتاب شامل يؤرخ للبشرية، والتاريخ الكوني الذي أراد تورغو كتابته هو تاريخ تقدم الإنسان، فهو يسجل خطوات هذا التقدم ومراحله، ويبحث أيضا عن أسبابه الكبيرة وعِلَلِه الجزئية. إن البشرية، كالفرد الواحد، كانت لها طفولتها، وهي الآن تسير بخطى راسخة وحثيثة نحو الحضارة والسعادة والعدالة والتفوق العقلي.. إذن، لا يمكن لمفهوم التقدم أن ينفكَّ عن تصور خاص للزمن.. الزمن، الذي له بداية، دون أن تكون له، بالضرورة، نهاية، والذي ينساب بشكل خطي وثابت، لذلك فالتقدم تاريخي، وهو صيرورة تاريخية... لذلك سعى كوندورسي، في كتابه الذي صدر سنة 1795، «مخطط لوحة تاريخية لتقدم العقل الإنساني»، إلى رصد التغيرات التي حدثت في المجتمعات البشرية طيلة قرون، والتي أدت إلى الدفع بالنوع الإنساني إلى الأمام: نحو اكتشاف الحقيقة ومعانقة السعادة. وكانت غايته أن يبين، بالحجج، أن الطبيعة (كذا) لم تضع أي حد لتحسن واكتمال القدرات البشرية، وأن هذا الترقي لانهائي.. ولذلك فإن تقدم العقل لن يوقفه شيء، والردة إلى الوراء مستحيلة الحدوث.. لكنْ، ماذا لو استحضرنا ما عرفتْه وتعرفه الإنسانية من تراجع وسقوط؟.. إن ذلك -كما يقول الألماني ليسنغ في كتابه «تربية الجنس البشري»- مجرد تفاعل جدلي للعقل في مسيرته الثابتة نحو التحسن والكمال، ففي المحصلة النهائية، ينتصر التقدم. التقدم: «ديانة» القرن التاسع عشر.. رغم ما سبق، فإن هذه الفكرة -خلاف ما قد يتبادر إلى الأذهان- لم تكن واضحة تمام الوضوح في أذهان فلاسفة الأنوار -ومنهم دالامبير- الذين كانوا واعين بما عليه «التاريخ» من التعقيد والتركيب وكثرة الانعراجات والمفاجآت. لقد «آمن» القرن الثامن عشر بالثورة التي تقطع مع الماضي بكل ما يحمله، بينما آمن القرن التاسع عشر بالتقدم وما يستلزمه من التطور والتدرج.. ورفع هذه الفكرة إلى مستوى القانون الموضوعي الطبيعي الشامل للمادة والإنسان. وقد آمن الجميع -إلا النادر- بالتقدم، وشارك الكل في فلسفته والدفاع عنه والتبشير به.. فالمفهوم متّفَق عليه، وإن وقع الخلاف في تحديد عوامل التقدم الرئيسة: هل هي تطور العقلانية أم تطور وسائل الإنتاج، أم... لذلك يستحيل أن نُحصي أسماء مفكري التقدم، فمنهم: أوغست كونت وماركس وإنغلز وبرودون ورينان وبنتام، و«اليوتوبيون».. إلخ.
مراحل التقدم البشري انتشرت فكرة تقسيم التاريخ إلى مراحل معينة، يفترض أن كل واحدة منها تؤدي إلى ولوج المرحلة اللاحقة. إن الوهم الكبير للقرن التاسع عشر –وفق ما يرى كارل بوبر في كتابه الكلاسيكي: بؤس التاريخانية- هو الاعتقاد بوجود قدَر محدد للإنسانية يدفعها إلى بلوغ غاية معينة، عبر المرور بمراحل ضرورية. لقد أعجب مفكرو التقدم بجواشيم دوفلور، هذا الراهب الإيطالي الذي قسّم التاريخ إلى عصر الأب، عصر الابن، ثم عصر الروح القدُس.. على منوال التثليث المسيحي. وأخيرا بشَّر بقدوم هذا العصر الثالث. وجاء الإيطالي فيكو فأوضح أن المجتمعات تمر بثلاثة أطوار: الطور السماوي- الإلهي، فالطور البطولي، فالطور الإنساني. وكذلك فعل كونت، حين قسَّم المراحل إلى ثلاث: اللاهوتية، ثم الميتافيزيقية، ثم الوضعية. بينما رأت الماركسية أن تطورا ثابتا ينقل المجتمعات من الزمن البدائي ثم إلى الزراعي، فإلى العصر الصناعي الرأسمالي، إلى الشيوعية النهائية.. لذلك رحّب ماركس وإنغلز باستعمار الهند والجزائر، لأنه يساعد هذه المجتمعات على الدخول إلى العصر الصناعي، مما يؤهلها لبلوغ المرحلة الشيوعية، أي ينقلها درجاتٍ في سُلّم التقدم...