عندما زار خوسي ماريا أثنار مدينة مليلية، مؤخرا، فإنه لم يكن يهدف إلى التضامن مع شرطة الحدود بقدر ما كان يهدف إلى شيئين آخرين: الأول إغاظة المغرب وربح نقطة توتر أخرى معه، والثانية إغاظة رئيس الحكومة الإسباني خوسي لويس ثباتيرو وتذكيره بدَيْن قديم. فعندما كان أثنار رئيسا للحكومة، وفي عز الأزمة حول جزيرة المعدنوس (ليلى)، قام ثباتيرو، وهو وقتها زعيم المعارضة، بزيارة إلى المغرب، للبحث عن وسيلة لتخفيف الاحتقان المتصاعد بين البلدين، وهي الزيارة التي لقيت انتقادا واسعا من جانب الحزب الشعبي الحاكم وقتها. اليوم، يحاول أثنار أن يفعل ما فعله ثباتيرو من قبل، لكن أثنار لم يأت إلى المغرب بحثا عن حل، بل ذهب إلى مليلية بحثا عن تصعيد، وهي عادته دائما، أي أنه يفضل صب المزيد من الزيت على النار. أثنار هو أيضا رجل يثير الاستهجان حتى داخل إسبانيا. فهو كان، قبل غزو العراق، يؤكد توفر صدام حسين على أسلحة دمار شامل، وكان «بوشيّا» أكثر من بوش، وله مواقف متطرفة جدا ضد العرب والمسلمين. وهو أيضا رجل يعاني من فقر فظيع في ثقافته التاريخية، والدليل على ذلك أنه طالب مرة، خلال محاضرة ألقاها في جامعة أمريكية، المسلمين بالاعتذار عن احتلالهم إسبانيا لثمانية قرون، في إشارة إلى الأندلس، مع أن المؤرخين يجمعون على أن الأندلسيين كانوا أصحاب الأرض الأصليين، أي أنه يطالب الأندلسيين بالاعتذار عن «احتلالهم» لأنفسهم!... وعموما، فإن علاقات إسبانيا مع المغرب كانت دائما مثار خلاف وجدل داخل إسبانيا نفسها. فهناك من يدعو إلى تشدد دائم مع المغرب، وهو حال اليمين، وهناك من يدعو إلى ممارسة كل أنواع المرونة والبراغماتية، مثلما هو حال الاشتراكيين، الذين فهموا العقلية المغربية بطريقة أفضل، حيث إن أفضل مرحلة للعلاقات المغربية الإسبانية هي التي كانت في عهد رئيس الوزراء الأسبق، فليبي غونزاليس، والتي استمرت قرابة 15 سنة. المغرب، بدوره، يمارس في علاقاته بإسبانيا الكثير من مظاهر التناقض. فالمسؤولون المغاربة ظلوا دائما يعتبرون فرنسا مثالهم الأفضل في كل شيء، بل إن المغرب لم يتردد في «طحن» كل أشكال الثقافة الإسبانية في الشمال، بعد الاستقلال، وأصبحت نخبة المنطقة مُجْبَرة على تعلم الفرنسية من أجل الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية، وظل المغاربة يعتبرون إسبانيا نموذجا غير جدير بالاحترام، لكنْ بعد أن تقدمت هذه البلاد وازدهرت في زمن قياسي، أصبح المغاربة ينظرون إليها مشدوهين ولا يفهمون أسرار تقدمها. بعد ذلك، صار المغرب يلعب دور العشيقة المدللة بين فرنساوإسبانيا، أي عندما تغضبه فرنسا يتوجه نحو إسبانيا، وعندما تغضبه إسبانيا يتوجه نحو فرنسا... وهذا نموذج جديد في العلاقات الدولية يمكن تسميته بمصطلح «دبلوماسية غرام وانتقام»!.. لكن إسبانيا تبدو اليوم أكثر أهمية من فرنسا. فهي الجار الدائم الذي لا يمكن تغييره، وهي التي تحتضن قرابة مليوني مهاجر مغربي، وهي التي تحتل مدنا وجزرا مغربية، وهي التي تتوفر أيضا على أكبر عدد من المراكز الثقافية في المغرب، وهي التي توجد على رأس البلدان المستثمرة في المغرب، وهي التي يتدخل سفيرها في الرابط في شؤون لا تعنيه، مثل دعم حركات الشواذ أو التدخل المباشر في قضية الصحراء. إنها تشتغل بجد لكي تكون حاضرة في المغرب بقوة، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا. جار مثل إسبانيا يَلزَم المسؤولين المغاربة الكثير من الذكاء للتعامل معه، لذلك فإن اعتصام بضع عشرات من المغاربة أمام النقطة الحدودية في مليلية أو سبتة لن يكون مفيدا، ما دام أن أزيد من 50 ألف مغربي يستيقظون كل صباح من أجل هدف واحد، وهو أن يدخلوا سبتة ومليلية، خفافا ويخرجوا منها ثقالا... لأنهم لا يملكون وسيلة أخرى لكسب لقمة العيش. هكذا، يبدو أن الحصار على مليلية هو، في الوقت نفسه، حصار ضد الذات، لأن المغرب ينبغي أولا أن يوفر بدائل حقيقية لهؤلاء المواطنين الذين يعتمدون في إعالة آلاف الأسر على التهريب. فالتحدي الحقيقي والوحيد أمام المغرب هو أن يتقدم ويتطور أمام جيران متعجرفين، وما عدا ذلك فمجرد ضجيج وبهرجة!..