راكم دفناء هذه المقابر شهرة ترسخت في كتب التاريخ ومكنتهم من أن يجمعوا حولهم مريدين، سواء على الصعيد المحلي أو الوطني أو حتى العالمي، وساهموا بتصوفهم وزهدهم وبساطتهم وتواضعهم وعلمهم الديني الواسع في أن ينسج عنهم مريدوهم العديد من الحكايات الغريبة، التي رفعتهم إلى درجة الولي الصالح، الذي تنفع بركته في علاج عدد من الأمراض المستعصية على الطب الحديث. وإلى جانب هذه «البركات»، أدرجت زيارة الأضرحة والزوايا، في الآونة الأخيرة، ضمن ما يعرف بالسياحة الروحية التي يمكن أن يعول عليها المغرب لجلب المزيد من السياح الأجانب وخلق انتعاشة في السياحة الداخلية. لكن هذه الأضرحة، في المقابل، أصبحت نتيجة الإهمال وانشغال بعض «الأتباع» بجمع «التبرعات» فقط مهددة بالفضائح الأخلاقية التي ترتكب في محيطها... امتزجت العبادة والذكر وطلب التوبة والهداية والصحة من الله والدعوة للولي الصالح مولاي بوعزة بالجنة، مع طقوس «الحضرة و«الحيرة» وخرافات «العادة»، وعبادة الولي نفسه وتوجيه كل الطلبات إلى ضريحه، أو الاستعانة ببعض المشعوذين والدجالين من أجل تسريع تلبية الطلبات... وزادت بيوت الدعارة وشبكة الشواذ جنسيا من تدنيس المنطقة العذراء. تقام «العادات» أو «الهْديات» كل يوم أربعاء من فترة موسم «الحج»، وما إن تطأ أقدام وفود القبائل (بني خيران، المذاكرة، وزعير والسهول..) أرض الولي الصالح، حتى تبدأ في التحضير ل«الهدية»، على بعد حوالي 600 متر، وهو طول الشارع المؤدي إلى الضريح، ألبسة تقليدية وفق طابع وخصوصية كل منطقة، وأعلام بألوان مختلفة وعتاد الرقص والحيرة المشكل أساسا من (البنادر والطبول والمزامير العادية والنحاسية...)، ولكل وفد نجومه. قبل أن تعقد العزم على زيارة موسم مولاي بوعزة في إقليمخنيفرة، وتبدأ رحلة «الركب» رفقة الأهل أو الأصدقاء إلى جبال الأطلس، من أجل الاستمتاع بالطبيعة العذراء التي لم تطلْها بعدُ أيادي ملوثي البيئة والحياة، تسلَّحْ بنصائح من سبقوك في الزيارة، وتذكّر أن طبيعة جبال الأطلس، التي شاء القدر أن تحتضن قبرَ أحد أولياء الله الصالحين مولاي بوعزة (أبي يعزى آل لنور بن ميمون)، داستها منذ القدم أقدام الخير والشر، خليط من الصالحين والطالحين... شرفاء وصالحون يتعبدون بما تعلّموه من آبائهم وأجدادهم، وبينهم أشباههم ممن ابتدعوا طرقا بعيدة عن الشريعة الإسلامية، من أجل الاسترزاق ونهب أموال السُّذَّج والجهَلة الأميين، دينيا، من الحجاج الوافدين من قبائلَ مختلفة. هنا وهناك ينتشر المشعوذون والمشعوذات والدجالون والدجالات يقتنصون النساء والرجال المحبَطين والأميين، والفتيات اليائسات... وبين هؤلاء وأولائك، تطوف أسراب من الأطفال والشباب المنحرفين والشواذ جنسيا والعاهرات والوسطاء في الدعارة خارج وداخل محيط الضريح... وتبقى فئة المتسولين والمشردين و«سجناء الضريح»، كائنات بشرية من الدرجة الثانية، يتجنبها المارة، ونادرا ما تجد من يلقفها درهما أو درهمين... ليعيش هؤلاء ببطون فارغة، على أمل أن تأتي «قصعة كسكس» أو وليمة «هديةً» من «حاج» أو حاجة للضريح وساكنيه، أو مقابل قضية يزعم صاحبها أن حلها عند مولاي بوعزة... لقد ظلت تلك الأرض الطيبة مكانا للعبادة والذكر، وفي نفس الوقت مسرحا ومستقَرّاً لرموز الضلال والشعوذة والخرافات وأكَلة الحوم النيئة والكؤوس والقنينات الزجاجية والأعمدة المشتعلة والماء الحارق... الرحى تطحن القمح وحدها.. تعددت كرامات أو «خرافات» مولاي بوعزة، واختلفت باختلاف رواتها ومؤرخيها، لكن معظمهم توافقوا على مجموعة منها، كانت سببا في ارتقائه لديهم إلى منصب الشريف الفاضل والشيخ الذي وإن مات، مازالت شرائح كبيرة من أحفاد وسلالات عدة قبائل، زارها أو عايشَها، تؤمن بقدرته على تحقيق مطالبها في الدنيا والآخرة من (عمل وزواج وصحة وإبطال السحر والثقاف وتحديد «مسخوط» الوالدين من «مرضيهم»..). وقد خلص المؤرخ أحمد التادلي الصومعي إلى تأليف كتاب عبارة عن تحقيق جمع فيه ما بلغه من كرامات مولاي بوعزة ويحمل عنوان «كتاب المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى»، والتي عددها حسب مسار حياة الولي الصالح. كما أن مجموعة ممّن التقتهم «المساء» من أعضاء جماعة الضريح التي تتكون من 24 عضوا موزعين على أربعة دواوير تعتبر نفسها من سلالة الولي الصالح، وهي دواوير (أيت لكناويين، أيت الشيخ، أيت عزوز، لعوالم)، يؤمنون بصحة الكرامات على أساس أنهم تناقلوها أبا عن جد وأنها ليست خرافات.. ولعل أولى كرامات الولي الصالح، حسب مزاعمهم، أنه لمّا كان يعمل خادما لدى سيده الولي الصالح مولاي بوشعيب، الذي يوجد ضريحه في إقليمالجديدة، كان كلما دخل عليه سيده وجدَه يتعبّد والرحى تطحن القمح وحدَها، وهو ما رفع قيمته لدى سيده، ولما انتشر خبر كَرامة مولاي بوعزة بين قبائل منطقة إقليمالجديدة وآزمور، قلَّدوه منصبَ الشريف الفاضل، وعند وفاته، بدؤوا يحجون سنويا لزيارة ضريحه، راكبين (البغال) وقاطعين مئات الكيلومترات. كما أنه وحسب الروائيين وأعضاء من جماعة الضريح السلالية، كان يرى جرائم وجنح الناس ويفضحهم حتى يعلنوا توبتهم، وأنه حين طلب منه سيده مولاي بوشعيب الكفَّ عن فضح الناس، أجابه بأنه عبد مأمور. بغلة عملت ساعية بريد.. من بين كرامات مولاي بوعزة، حسب الرواة، أنه كان يمتلك في شبابه حمارة يستعملها في تنقلاته ويستعين بها في حمل متاعه، وأنه لما قرر مغادرة سيده، امتطى حمارته، وانتقل للعيش في مكان عالٍ اسمه «ثاغيا»، قرب جبل إيروجان في إقليمخنيفرة حيث، ظل يتعبد زاهدا عن شهوات الحياة. وإيروجان جبل يرتفع عن سطح البحر بأزيد من 1100 متر. فتحولت الحمارة وصارت «بغلة»، وأصبحت البغلة معينَه الأساسي في جلب الماء من أسفل الجبل، فيكفي أن يضع الناس فوقها الركْوتَيْن مملوءتين بالماء لتأتي بهما وحدها إلى صاحبها، قاطعة مسافات طويلة في مسالك جبلية وعرة، كما كانت تعمل «ساعية للبريد» بينه وبين سيده مولاي بوشعيب، تحمل رسائله إلى سيده قاطعة مئات الكيلومترات، وتعود بعد أيام برسائل جديدة من سيده... كما يحكي بعض أعضاء جماعة الضريح أنه كان يُطعم البغلة الثمر. وكانت «تركل» كل عاق لوالديه (مسخوط) قام بلمسها!... ومازلت كرامات «البغلة» حاضرة عند بعض قبائل «السهول»، نواحي الرباط، والتي تحج وفود منها كل سنتين خلال شهر أكتوبر، ومعها «بغلة» هدية للضريح، ويحكي أعضاء من جماعة الضريح أن تلك الوفود ما إن تعود إلى بلدها حتى تنتقي «بغلة» جديدة وتطلقها ترعى حرة مدللة داخل كل الضيعات، ولا أحد يضربها أو يستعين بها لقضاء أغراضه. ليتم جلبها بعد سنتين هدية للضريح وهكذا... حجرة مولاي بوعزة لتحديد العاقين ينتظر المئات من الشباب والشيوخ والنساء دورهم للمرور تحت الصخرة (السّْكانيرْ)، والكشف عن حقيقة وضعهم مع (الوالد والوالدة حيين أو ميتيْن).. «سكانير» مولاي بوعزة فيه جناحان للفحص الدقيق بأثمنة رمزية تغري كل زائر أو حاج بالاستفادة من الكشف. ولشدة لهفة «الحجاج» على معرفة وضعهم مع آبائهم وأمهاتهم، يبادرون إلى الكشف مرتين، بداية بالصخرة المقعرة والتي بداخلها بعض الجزئيات الصخرية الحادة، تحرسها سيدة عجوز شريفة بوعزواية، يمنحها «الحاج» الذي ينوي الكشف (اللي جاب الله)، من درهم إلى خمسة دراهم عن كل عملية كشف، يدخل الحاج عبر فج الصخرة الأمامي زاحفا على يديه ورجليه محاولا تفادي الجزئيات الحادة والمتداخلة، ويحاول الخروج منها بعد قطعه بضعة أمتار، متمنيا ألا تحول الصخرة (المباركة) دون خروجه. فكل من تعذَّر عليه الخروج اتُّهِم بأنه عاق الوالدين («مسخوط») ووجبت عليه لعنة الجماهير الحاضرة التي ما إن يتعذر على الشخص الخروج، حتى تبدأ في الصلاة على رسول الله (ص): (اللهم صلي عليك يا رسول الله)، ومصيره جهنم إلى أن يتدارك موقفه ويحصل على عفو الوالدين ورضاهم في موسم حج آخر.. وبعد أن يكون قد تدبر أمرَ حصوله على عفو الوالدين. وتزداد مهمتُه صعوبة إذا كان الوالدان معا أو أحدهما قد فارق الحياة. وقد يصبح الحاج المسخوط مطالَبا بالعودة لعدة مواسم لزيارة الضريح وإعادة «الكشف»... قال أحد الشباب الذين خضعوا لكشف صخرة مولاي بوعزة «إنك ما إن تدخل النفق الصغير حتى ينتابك الخوف والرعب من أن «تمسك» بك الصخرة، ومعظم الذين تعذر عليهم الخروج من نفق الصخرة إما أنهم متأكدون أو يشكون في أنهم عاقون، وهو ما يجعلهم يرتجفون ويصابون بالدوار أو الهلع الذي يمنعهم من الخروج بسلاسة من فج الصخرة. موضحا أنه لم يدخل النفق إلا بعد أن تلقى دعوات أمه وأبيه له بالرضا والسلامة. حصيرة للا ميمونة ينتقل حجاج مولاي بوعزة من صخرة مولاي بوعزة التي يكونون قد اجتازوها بنجاح وتأكدوا أنهم (مرضيين الوالدين) إلى حصيرة (للا ميمونة الحصيرة)، السكانير الثاني الكاشف عن (مْسخوط ومرضي الوالدين)، وهي عبارة عن صخرة سُميت كذلك نسبة إلى «الحصيرة» التي يستعملها القرويون داخل منازلهم للجلوس عليها جماعة. وتقول الرواية إن مولاي بوعزة كان يقيم معظم صلواته فوقها، كما كان يتعبد جالسا فوقها، وهي ذات مساحة كبيرة ومسطحة ومنحدرة تشرف عليها سيدة أخرى تتقاضى درهمين لكل عملية «كشف»، وتقتضي عملية الكشف بالحصيرة أن ينام الحاج على الحصيرة -الصخرة ممدَّدا رجليه ويديه في خط مستقيم، ويبدأ في النزول إلى سفح الصخرة في الدوران حول جسده، دون الاستعانة بيديه، فإن كان نزوله مستقيما فإنه «مْرضي الوالدين»، وإذا انحرف يمينا أو يسارا، فعليه مراجعة أوراقه مع والديه، وسينال لعنة الجمهور الحاضر... وإلى جانب الحصيرة، تجد كوخا طينيا اسمه «الفْقيرة ميمونة»، ويبعد المكان عن الضريح بحوالي كيلومترين. يحجُّه الناس بعد زيارة مكان «البغلة» وصخرة مولاي بوعزة.