اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. ظل رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبون منبهرين دائما بمفهوم البابوية وبنيتها التنظيمية التي يجمع فيها الزعيم بين الزعامة الروحية والسياسية وانتخابه على رأس البابوية مدى الحياة دون أن يُحاسب أمام أي هيئة قضائية أو تشريعية كانت. فالبابا له تأثير خاص على التوجهات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية للكاثوليكيين وعلى بقية العالم. الموساد، من جهته، ظل دائما مندهشا للقدرة على التكتم والتنظيم الداخلي المحكم الذي يميز الفاتيكان. أحيانا، يتطلب الأمر انتظار عدة أشهر قبل أن تظهر أولى بوادر الحديث عن مشاركة البابا في هذا الاحتفال أو هذه التظاهرة، ونادرا ما تظهر كل المعطيات المتعلقة بأي انتقال أو سفر دبلوماسي للبابا. زعماء الموساد كلهم تساءلوا دائما عن الكيفية الكفيلة برفع هذا الحجاب الذي يكسو وجه الفاتيكان، إلا أن مختلف المحاولات التي قامت بها مصالحه السرية من أجل ربط علاقات جيدة مع الفاتيكان باءت بالفشل. إذ أن مسؤولي الفاتيكان ظلوا دائما يتملصون من أي محاولة تقارب إسرائيلية باللباقة الواجبة. وحقيقة هذا الرفض المتكرر من قبل الفاتيكان هي أن هنالك داخل المؤسسة البابوية يوجد تيار قوي معاد لإسرائيل، في الوقت الذي لا يتردد فيه رجال الفاتيكان في اعتبار الضفة وغزة «أراض محتلة»، والجولان أرضا سورية «ملحقة» بإسرائيل. إلا أنهم يلزمون دائما الحذر في أحاديثهم لأنهم يعرفون جيدا أن الدولة العبرية زرعت في كل مكان مخبرين وجواسيس للتجسس عليهم والتصنت عليهم وربما لتسجيل أحاديثهم وتصويرهم. وكل وافد جديد على سكرتارية الدولة للمقر المقدس (بمثابة وزارة الشؤون الخارجية) يُحذر منذ البداية من احتمال أن يتعرض للتجسس أو لمحاولة الاستقطاب من قبل عملاء التجسس خاصة أولئك المنتمين إلى البلدان التي يرفض الفاتيكان الاعتراف بها على المستوى الدبلوماسي، التي ظلت إسرائيل طويلا على رأسها إلى أن قرر البابا جون بول الثاني أن يمنحها وضعا دبلوماسيا. مكتب الشرق الأوسط في الفاتيكان واحد من المكاتب التي تؤثث مصالح الفاتيكان الخارجية. أحد الملفات التي وُضعت مبكرا من قبل هذا المكتب أمام أنظار البابا يوحنا بولس الثاني مباشرة بعد بلوغه قمة البابوية كان يتعلق بطلب تعززه الكثير من الاعتبارات والمعطيات الموضوعية حول مشروع تدويل مدينة القدس. المطلب كان يقضي بجعل المدينة تحت التدبير الأمني الأممي، بينما يتولى الفاتيكان مراقبة الأماكن المقدسة المسيحية. خبر الاقتراح هذا علمت به تل أبيب في بداية العام 1979 بعد أن تم تصوير الوثيقة على يد عميل ميداني بروما لما توصل بها أحد الأثرياء المسيحيين اللبنانيين يقيم في روما من قبل أحد رجال الفاتيكان. احتمال تدويل القدس أغضب كثيرا الوزير الأول مناحيم بيغن، الذي أمر رئيس الموساد إسحاق هوفي بمضاعفة جهوده من أجل مد جسور الحوار مع الفاتيكان. وفي خلال ذلك استحضر الرجلان ما حدث نهاية العام 1972 عندما كانت غولدا مايير في زيارة لروما. فقد كانت رئيسة الوزراء قد توصلت، أخيرا، بجواب إيجابي من البابا بولس السادس في شأن لقاء خاص سريع يخصها به. حُدد يوم اللقاء، فكان هو الخامس عشر من يناير 1973 صباحا. أُخبرت غولدا مايير بأن مدة اللقاء لن تتجاوز 35 دقيقة وأن المقابلة ستنتهي بتبادل الهدايا بينما لم يتم الاتفاق على أي جدول أعمال، لكن غولدا كانت تطمح إلى إقناع البابا بالقيام بزيارة رسمية لإسرائيل وإلقاء خطبة أمام آلاف المسيحيين العرب، غير أنها كانت تعول على حضوره لتلميع وجه بلدها على الساحة الدولية. اتُّخذت جميع الاحتياطات الأمنية لحماية غولدا مايير، وكان أولها التستر على الحدث وعدم إعلانه. كان مقررا أن تحضر مايير لمؤتمر للأممية الاشتراكية في باريس قبل أن تطير إلى روما، كما تقرر التحفظ على إعلان زيارتها لروما أمام الصحافيين إلا عندما تكون الطائرة في الجو بين باريس وروما. انتقل مدير الموساد زفي زامير إلى روما لاستطلاع الاحتياطات الأمنية المرصودة للزيارة خاصة أن روما كانت مرتعا للجماعات الإرهابية من كل نوع، لكنها تمثل في الوقت نفسه مرصدا مهما للموساد يتيح ضبط الأهداف، خاصة أنه كان في بحث دائم عن النشطاء الفلسطينيين المسؤولين عن عملية ميونيخ. زامير كلف أحد أمهر العملاء في الجهاز، مارك هيسنر، بمراقبة الجالية العربية في روما، وأرسل عميلا آخر، شاي كولي المتمرس، إلى ميلانو قبل أن يخبرهما بالوصول القريب لمايير إلى روما. بعد ذلك ينتقل الثلاثة إلى الفاتيكان. في تلك الفترة كان النشطاء الفلسطينيون يربطون علاقة متينة مع ال كا جي بي السوفياتي، الذي يدربهم ويمدهم بالسلاح اللازم لعملياتهم. كان التدريب يتم في جامعة باتريس لومومبا بموسكو، هناك حضر الفسطينيون لعملية ميونيخ، وبعدها طلب هؤلاء من السوفيات ضمان حمايتهم من خلال إيوائهم بروسيا، لكن السوفيات ظلوا يماطلون أمام موجة التنديد العارمة التي تلت العملية. إذ فضل الكرملن أن يظل بعيدا عن تبعات العملية. علم الفلسطينيون برحلة مايير إلى الفاتيكان فحضروا لعملية هجومية على طائرتها بروما. كان المخطط شجاعا وبسيطا في الوقت نفسه، ويقضي بأن يتم نقل الصواريخ الروسية عبر الأدرياتيك نحو مدينة باري الإيطالية، على الساحل الشرقي الإيطالي. من هناك تتوجه الصواريخ برا إلى روما ليتزامن وصولها مع وصول غولدا مايير. الناشط الفلسطيني سلامة استحضر كل ما تعلمه على أيدي الروس في ال كا جي بي، خاصة العمل على تمويه العدو بعملية ثانوية للتشويش على تركيزه وإبعاده عن العاصمة روما.