اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. توجه العميلان بسرعة إلى سيارة بيدس المركونة في مكان قريب من موقع العملية، لكن سائق مشعل، الذي كان ما يزال لم يغادر المكان نحو المدرسة التي اعتاد أن يوصل أطفال مشعل إليها كل صباح، عاد مسرعا بسيارته إلى الخلف لمحاصرة سيارة تويوتا التي كان سيفر على متنها العميلان. في تلك الأثناء، بدأ مشعل يفقد توازنه قبل أن يبادر أحد الحاضرين إلى الإمساك به حتى لا يسقط على الأرض. نجح بيدس في الوصول إلى سيارته قبل أن يرتمي كيندل إلى جانبه ممسكا دائما بقاذف السم بين أصابعه فانطلقا بسرعة بعد أن أفلتا من السائق، إلا أن عددا من السيارات تعقبهما، فيما تم إبلاغ الشرطة بالحادث لتطوق الحي بأكمله. في تلك الأثناء، وصلت سيارة الإسناد اللوجستيكي التابعة لعملاء الموساد إلى مكان العملية وأشاروا للعميل بيدس بأن يلتحق بهم. لكن في اللحظة التي خرج العميلان من سيارتهما حلت سيارة بالمكان ليحاصرهما أشخاص مسلحون ويجبرونهما على الانبطاح أرضا بينما انسحب العملاء الآخرون الذين كانوا في سيارة الإسناد وعادوا إلى الفندق دون أن ينتبه إليهم أحد. في مفوضية الشرطة المركزية بعمان ادعى العميلان أنهما ضحية مؤامرة، غير أن وصول رئيس الاستخبارات الأردني الرهيب سميح البطيحي إلى المفوضية عجل بوضع حد للمسرحية التي أراد العميلان تمثيلها. فقد صرح بأنه يعرف من يكونا لأنه تلقى للتو مكالمة من ضابط الاتصال الاستخباراتي التابع للموساد بعمان. يحكي البطيحي فيما بعد أن «ضابط الاتصال الإسرائيلي سرعان ما كشف عن كل شيء. واعترف لي بأن المقبوض عليهما تابعان له وأن إسرائيل ستفاوض في شأنهما مباشرة مع الملك». وضع البطيحي العميلين في زنزانتين منفصلتين وأوصى بأن لا يتعرضا لأي سوء. في تلك الأثناء سيق مشعل إلى المستشفى، وأودع غرفة العناية المركزة. كان يعاني من طنين متردد في الأذن اليسرى وشعور بالاهتزاز المتواصل كما لو أن تيارا كهربائيا يعبر جسده وصعوبة متزايدة في التنفس. وقبل أن تشتعل الخيوط الهاتفية بين مصالح الاستخبارات في إسرائيل، كان الملك حسين يهاتف الوزير الأول نتنياهو عبر الخط الأحمر. يحكي عميل إسرائيلي تفاصيل المكالمة كالتالي:» حسين لم يطرح إلا سؤالين اثنين على بيبي (بنيامين نتنياهو). أي لعبة يلعب؟ وهل من ترياق مضاد للسم الذي أصاب مشعل؟» صرح الملك بأنه شعر بأن ابنته تعرضت لتعنيف على يد اعز اصدقائه. أما إذا كان نتنياهو يتصور أن بإمكانه أن ينفي كل شيء، فالأجدر به أن يعرف أن عميليه اعترفا بكل شيء أمام كاميرا فيديو وأن الأسطوانة المسجلة عليها اعترافاتهما في طريقها إلى واشنطن حيث ستعرض على مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية آنذاك. ظل نتنياهو متسمرا لوقت طويل في مكانه «شاحب الوجه كما سارق أُلقي عليه القبض وهو متلبس بجرمه». عرض على الملك حسين أن يطير في الحال إلى عمان ل «يعرض الأمر» عليه، إلا أن حسين أجابه بأن لا مجال لإضاعة الوقت. يتابع العميل الإسرائيلي كلامه: «كان الجانب الأردني صارما في موقفه. بيبي لم ينبس ببنت شفة عندما قال حسين إنه سيصر على طلب إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين وعدد من السجناء الفلسطينيين الآخرين. المكالمة التي لم تستغرق إلا بعض دقائق كانت، مما لا شك فيه، أسوأ لحظة في حياة بيبي السياسية على الإطلاق». أقل من ساعة بعد ذلك، كانت الطائرة في طريقها إلى عمّان وهي تحمل معها الترياق. تم حقن القيادي الفلسطيني وسرعان ما أبدى جسمه استجابة له قبل أن يظهر بعد أيام قليلة في ندوة صحافية في صحة جيدة. بعد ذلك، قرر المسؤولون في الاستخبارات الإسرائيلية أن لا ينفذوا أبدا أي عملية على التراب الأردني. في اليوم الموالي، اتصلت مادلين أولبرايت مرتين بنتنياهو، وكشفت له بوضوح موقفها الرافض للعملية بلهجة صارمة. في الوقت نفسه، استدعت الحكومة الكندية سفيرها بإسرائيل بعدما علمت باستعمال جوازات سفر كندية مزورة في العملية وكادت العلاقات الدبلوماسية تنتهي بين البلدين على إثر ذلك. بعد أسبوع، أطلق سراح الشيخ أحمد ياسين واستُقبل استقبال الأبطال في غزة، في الوقت نفسه عاد العميلان كيندال وبيدس إلى إسرائيل. إلا أنهما فُصلا من وحدة «كيدون» ومنحا مهام إدارية في مقر الموساد. عميل إسرائيلي قال فيهما: «هنالك حظوظ كبيرة في أن يكونا الآن مكلفين بمراقبة المراحيض». دائما في إطار الصراع من أجل ملاحقة الفلسطينيين وكشف خططهم، علم الموساد بأن الفلسطينيين دربوا نخبة من رجالهم على استغلال الهفوات التي تشكو منها الأنظمة الإسرائيلية الأمنية على المستوى الدولي. إذ اهتدوا إلى أسلوب اختطاف الطائرات وتحويل اتجاهاتها إلى بلدان أخرى. فتتابعت العمليات، إذن، واحتار عملاء الموساد في الأمر خاصة أن كل عملية كانت أكثر إتقانا من سابقتها بعدما تدرب الفلسطينيون على أساليب القتال على قمرة الطائرات وإخفاء المتفجرات والأسلحة وإدخالها إلى الطائرات. في تلك الأثناء كان العميل دافيد كيمش، اليهودي ذو الأصل البريطاني، يعرف أن الموساد في حاجة ماسة لحدث يمكنه من إثبات تفوقه على قراصنة الجو الفلسطينيين. ولابد للحدث أن يكون جامعا لعناصر ثلاثة هي: دقة العملية بكل تفاصيلها، ومخاطرة كبيرة، ونتيجة أكثر من مرجوة.