في مثل هذا الشهر من سنة 2006، شن الكيان الصهيوني حربا همجية على لبنان لم يميز خلالها بين الحجر والشجر والبشر، ولم يفرق بين محل سكن أو معبد أو طريق أو ثكنة، ولم يستثن صغيرا ولا أخذته رحمة بامرأة ولا وقر كبيرا، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وأهلك الحرث والنسل ضاربا بعرض الحائط كل المواثيق والقوانين والأعراف والأخلاقيات، وسنده في كل ذلك الفيتو الأمريكي ومباركة أنظمة عربية وسكوت أخرى. ولأن المقام لا يتسع للحديث بتفصيل عن دواعي هذه الحرب وأسبابها، الظاهرة والخفية، فإن الضرورة تفرض الحديث عن بعض نتائجها التي غيرت الكثير من معالم المنطقة وأربكت حسابات العديد من الأطراف وكشفت الكثير من الحقائق، ومن هذه النتائج: - تحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر والقوة التي لا تهزم: إذ رغم جيوشها وعتادها وأموالها والدعم الذي تلقته، انهزمت «إسرائيل» عسكريا، وتكسرت إعلاميا رغم آلتها الدعائية وإمكانياتها الكبيرة، وتصدعت جبهتها الداخلية رغم التماسك الداخلي الذي ظلت تبديه فيما سبق. - فشل خيار الواقعية الاستسلامية: فقد بينت هذه الحرب أن الواقعية لا تعني الخضوع للواقع بإكراهاته وضغوطاته، ولكنها تفيد تطويع الإمكانيات الذاتية لتحقيق الأهداف دون التنازل عن المبادئ من خلال ملاءمة الوسائل للأهداف والظروف المحيطة. كما بينت هذه الحرب أن هناك ميزانا آخر، إلى جانب ميزان القوى، لا يجب إغفاله، وهو ميزان الإرادة. - ليس لأمريكا صديق دائم، وصديقها من يخدم مصلحتها: فقد تابعنا كيف تنكرت للبنان ولحلفائها فيه حين عارضوا وقف الحرب، وحين زودت الكيان الصهيوني ب«القنابل الذكية». وهذا سلوك يذكرنا بحقيقة أمريكا التي تنكرت لنظام الشاه في إيران، وقد كان دركيها في المنطقة، وانقلبت على السعودية بعد أحداث 11 شتنبر 2001 وهي حليفتها. - فضحت هذه الحرب كثيرا من الأنظمة العربية وكشفت سوء تقديرها وعدم معرفتها بحقائق الميدان، فكانت حقا هي المغامِرة وكانت مواقفها غير محسوبة لأنها لم تعرف المناورة، ولو في الهامش المتاح لها لتحسين موقفها وموقعها. - يستطيع الاحتلال أن يحقق عن طريق عملائه أكثر مما يمكن أن يحققه عن طريق عساكره وعتاده، وقد بينت هذه الحرب أن توحيد جبهة الداخل ورص صفوفها هو الجهاد الأكبر. وقد كانت مواجهة قوات الاحتلال أقل صعوبة من تداعيات الصراعات الداخلية بين فرقاء الساحة اللبنانية الذين تعالت نبرة خلافاتهم إلى حد التهديد بحرب أهلية ثانية. - الأنظمة العربية هي أكبر عائق ضد مواجهة المحتل، ولذلك فأكبر خدمة تسدى إلى المقاومة في فلسطين وغيرها هي التخلص من هذه الأنظمة الجاثمة على النفوس والمتسلطة على الرقاب والمعطلة لقدرات الشعوب. - حجم الدمار ووحشية العدوان يؤكدان أن تحرير الجنديين الأسيرين لم يكن سوى ذريعة لخوض حرب استباقية هدفها القضاء على حزب الله وإضعاف محور الممانعة وإعادة تشكيل «شرق أوسط جديد» وترسيم الهيمنة الأمريكية والتفوق الإسرائيلي والهوان العربي. - فضحت، هذه الحرب، حقيقة الحضارة الأمريكية القائمة على أساس المصلحة مغلفة بالأنانية، والقوة مقرونة بالقهر والإذلال، وذلك حين بشرت رايس بشرق أوسط جديد يبنى على جثث وجماجم وأشلاء الأطفال والشيوخ والنساء، وهي وسيلة أمريكية قديمة لبناء المشاريع، فالدولة الأمريكية نفسها بنيت على أنقاض جماجم العبيد والهنود الحمر، ونتذكر كيف تبجَّح «بوش الأب» غداة انتصاره على العراق في حرب 1991، فقال بلغة تنضح بالزهو وغرور القوة: «لقد دفنت إلى الأبد عقدة «فيتنام» في رمال العراق، ومن الآن فصاعدا لن يجرؤ أحد على تحدي أمريكا». وبهذه الذهنية نفسها، شن «بوش الابن» الحرب الثانية على العراق عام 2003، وأغراه النصر السهل والسريع، على بلد أنهكه الحصار طيلة ثلاثة عشر عاما، فتباهى كأبيه ليعلن بداية «القرن الأمريكي الجديد». - أصبحت المنطقة، بعد الحرب، مفتوحة على كل الاحتمالات، وقابلة لإعادة الصياغة من جديد، وخاصة في ظل تزامن ذلك مع ما يجري في العراق وفلسطين وأفغانستان والسودان وإيران. لقد اختلطت خلال هذه الحرب كل الأوراق، فالمقاومة تأسر جنودا صهاينة في فلسطين ولبنان قصد مبادلتهم بأسرى عرب، والكيان الصهيوني يبطش بالبلدين، والولاياتالمتحدةالأمريكية تتفرج وتبارك وتضغط وتساعد.. وربما تشارك، والمنتظم الدولي يقف عاجزا عن استصدار قرار بوقف الحرب، وأنظمة عربية تتحامل على المقاومة وتضغط وتبارك العدوان وتبرره، وأطراف سياسية من الداخل الفلسطيني واللبناني تناور وتتشفى.. وربما تتآمر، وشعوب مغلوبة على أمرها تتظاهر حينا وتُقمع أحيانا. تناقض صارخ عرفته المنطقة في لحظة وجيزة توضحت معه معالم الخريطة السياسية ومواقع مختلف الفاعلين فيها ومواقفهم إزاء ما يجري. لماذا هذا التناقض؟ وما السر في هذا الزخم من الأحداث؟ وهل يمكن اعتبار الحرب على لبنان مجرد النقطة التي أفاضت الكأس وكشفت المستور وعرت الحقائق؟ يصعب حسم الجواب في عامل واحد، ولكن هناك احتمالات وفرضيات، فربما يرجع كل ذلك إلى أحداث 11 شتنبر 2001 وما خلفته من صدمة لدى صناع القرار في الولاياتالمتحدةالأمريكية وما تولد عنها من خطط وبرامج وشعارات أهمها «الحرب على الإرهاب» و«من ليس معنا فهو ضدنا» و«نظرية الفوضى الخلاقة» و«الحروب الاستباقية». وقد يعود ذلك إلى سقوط المعسكر الاشتراكي، أو ما كان يسميه الأمريكان «الخطر الأحمر» وتفرد الولاياتالمتحدةالأمريكية بالسيادة على العالم من خلال قطبية أحادية مهيمنة على كل المؤسسات، بما فيها الأممالمتحدة. كما يمكن إرجاع ذلك إلى طبيعة التركيبة النفسية والعقلية لصانع القرار الأمريكي، وهي عقلية «الكاوبوي» الذي لا يعيش إلا وسط المعارك، ولا يهنأ له بال إلا في ظل وجود عدو، وإن لم يوجد فإنه يصنعه حتى لا تكون «نهاية التاريخ». ولذلك روج الأمريكان للخطر الأخضر. وقد يرجع السبب إلى الرغبة الأمريكية في حماية حليفها الاستراتيجي «إسرائيل» الذي بدأ يضعف موقفُه وتهدَّد مصالحه في ظل تزايد نفوذ وقوة المقاومة وتنامي شعبية هذا الخيار ومصداقيته، وخاصة بعد طرد الاحتلال من جنوب لبنان ومن غزة مقابل فشل خيار التسوية والمفاوضات والاتفاقيات التي لم تفض إلا إلى توسيع الاحتلال ودعمه وحمايته وتكريسه وتقويته وفرضه أمرا واقعا على المنطقة. وقد تتداخل كل هذه العوامل مجتمعة لتجعل إخضاع المنطقة أول الأولويات. نحتاج اليوم إلى تدارس هذه الخلاصات حتى لا يصدم الشارع العربي بهزيمة جديدة، وهو الذي صدق أن زمن الهزائم ولى إلى غير رجعة. فهل ستكون نذر الحرب التي تخيم على المنطقة في هذا الصيف الساخن مقدمة لانتصار جديد يعيد إلى الأمة الأمل المفقود؟