في جلسات حوار مطولة، هي على شكل اعترافات، تحدث الزميل محمد ذو الرشاد، وهو من أبرز الإعلاميين المغاربة، الذين وضعوا اللبنات الأولى في العمل المهني، في حقل السمعي البصري، عن معارك خاضها رفقة زملاء له آخرين، من أجل إصلاح الأوضاع داخل التلفزيون المغربي. وتطرق إلى تفاصيل ملموسة لتدخل وزارة الداخلية في توجيه التلفزيون المغربي. وقارن بين ماضي القناة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وحاضرها. وقدم حكايات أخرى عن تجارب له في أمريكا وفي منطقة الخليج، قبل أن يعود مجددا، في اعترافاته، ليتحدث عن القناة الأولى، وهو الذي كان من نجومها، في وقت من الأوقات، يشرف على نشراتها الإخبارية ويقدمها في بعض الأحيان, ويغطي ويواكب أنشطة الملك الراحل الحسن الثاني، سواء داخل أو خارج المغرب. - ماذا عن شركة أوربيت السعودية؟ ما تزال من الشركات العاملة، فهي من الشركات التي تعمل بالتشفير، ولا يشاهدها إلا المشتركون. - أغلب الصحافيين التحقوا بقناة الجزيرة إلا أنت، لماذا؟ أنا كنت ساعتها في واشنطن وكنت لا أزال أعمل مع نفس الشركة، شركة «من واشطن». لكن في نفس الوقت، وقبل انطلاق الجزيرة، كان المسؤول الأول عن المشروع، عدنان الشريف، قد جاء في رحلة إلى واشنطن للبحث عن مراسلين لقناة الجزيرة. وكان هناك عدد من الأسماء كمرشحين، قابلني وعرض علي العمل كمراسل للقناة من واشنطن. كانت الجزيرة في بدايتها وكانت تتلمس طريقها ولا تعرف بالتحديد كيف ستكون صورة هذه القناة، فالهيكل الإداري للجزيرة لم يكن قد تبلور بعد، ولكن في النهاية اتفقنا على أنني سأكون مراسل القناة. واتصل بي محمد الجاسم، المدير العام للقناة، وقال لي نريدك أن تكون مراسلنا بواشنطن، وقال لي إنهم ما زالوا في البداية، وظروفهم المادية لا تسمح لهم بتعيين مراسل دائم هناك، واقترح علي العمل بالقطعة، ولكني اعتذرت بعد أن شرحت له أنه ليس بإمكاني ترك عملي الرئيسي في الشركة لأعمل مع القناة، إلا كمراسل رسمي ومتفرغ. - كم مكثت في واشنطن قبل أن تنتقل إلى أبوظبي؟ بقيت في واشنطن إلى نهاية 1998 حيث تلقيت عرضا من قناة أبوظبي للعمل كمدير للأخبار. وقبل التحاقي بالقناة، طلب مني إعداد دراسة حول كيفية تطوير القناة، فكانت تلك مناسبة لزيارة الإمارات لأول مرة في حياتي. وفي الحقيقة تركت تلك الزيارة الأولى لدي انطباعا جيدا عن دولة الإمارات وأهل الإمارات. وكان المسؤول الأول عن الإعلام هو الشيخ عبد الله بن زايد، وكان يفكر في مشروع طموح لإطلاق جهاز إعلامي يشرّف دولة الإمارات وسمعتها، وينافس باقي القنوات التلفزية. وهذه الفكرة نشأت لديه عندما كان وكيلا لوزارة الإعلام، وكان من بين أهدافه فصل الإعلام عموما، وقنوات الإذاعة والتلفزيون تحديدا، عن وزارة الإعلام التي كان قد أصبح وزيرا فيها، فقام بإنشاء مؤسسة أطلق عليها اسم شركة الإمارات للإذاعة والتلفزيون. ذهبت، إذن، إلى أبوظبي وقمت خلال زيارتي الأولى بإعداد الدراسة، وعلمت ساعتها أن المشروع كان قد بدأ قبل ذلك بسنتين، ولكنه فشل... - اسمح لي بالمقاطعة، كان ذلك قبل بدء المحطات التلفزيونية الأخرى مثل الجزيرة؟ لا، بل في نفس الوقت، أي في 1996 حينما بدأ مشروع الجزيرة بعد إغلاق محطة البي بي سي التلفزيونية. وفكرة الشيخ عبد الله بن زايد بدأت في نفس الوقت، وجاؤوا في بادئ الأمر بخبير إعلامي من باريس لقيادة المشروع وإيصاله إلى ما كان في مخيلة وزير الإعلام، لكن وبعد سنتين، اتضح أن شيئا لم يتحقق. فقرر الشيخ عبد الله، وهو رجل إعلام بالدرجة الأولى، على إلمام بالعمل التلفزيوني، إعادة الانطلاق من نقطة الصفر. قدمت دراستي وعدت إلى واشنطن، وكان هذا في صيف 1998. - قررت المساهمة في مشروع قناة أبو ظبي الإخبارية العالمية التي ساهمت في تغطية حرب العراق. كيف كانت بداية ميلاد هذا المشروع؟ التحاقي بأبو ظبي شيء أعتز به جدا. وعندما ألقي نظرة على مشواري المهني، أجد أن تلك كانت أهم السنوات في حياتي المهنية. في البداية عينت مديرا لمركز الأخبار، وهو مركز منفصل وقائم بذاته، تابع لإدارة التلفزيون ولكنه مستقل بموظفيه وغير ذلك. كان المركز يضم حوالي 180 موظفا في الأقسام المختلفة. وكانت مهمتي هي تنفيذ الدراسة التي أنجزتها, وتقديم المزيد من المقترحات للإدراة العليا لتحسين الأداء وتجاوز المشاكل التي كانت تواجه القناة في تلك الفترة، خاصة في جانب الأخبار. وجدت أن هناك عددا محدودا من الإعلاميين القادرين على القيام بالمهام التي رسمها المسؤول الأول عن الإعلام. كان هناك عدد محدود جدا من رؤساء التحرير ومن الصحافيين والمذيعين، من بينهم جمال ريان الذي يعمل حاليا بقناة الجزيرة، وكان علي ساعتها أن أقوم بإعداد خطة جديدة للنهوض بمركز الأخبار، وملء المساحات المحددة للأخبار والتي كانت نشرتين أو ثلاث نشرات كحد أقصى في اليوم. في بداية الأمر وجدت العديد من المصاعب، فمعالجة الأخبار بالطريقة الكلاسيكية كانت هي السائدة آنذاك، وهي الطريقة القديمة المعروفة في القنوات العمومية العربية. وأتصور أن النقطتين اللتين أخذتا من وقتي الحيز الأكبر في الأسابيع الأولى، هما، أولا، إشاعة نوع من الانضباط داخل غرفة التحرير، وثانيا، تخليص الإعلاميين، وخاصة رؤساء التحرير، من الرقابة الذاتية، ذلك أنني وجدت أن معظم القائمين على التحرير كانوا مكبلين بقيود فكرية وهمية جعلتهم عاجزين عن القيام بمهامهم الإعلامية رغم امتلاكهم أدوات العمل المهني، لكن عددا لا يستهان به من المحررين لم يكونوا ملمين بأبسط متطلبات العمل الإخباري في التلفزيون، مثل تحري الدقة ومراعاة الشروط الموضوعية، والقدرة على التمييز بين المهم والأهم، وتجنب المغالاة في الشوفينية، واستخدام المفردة الصحيحة في المكان الصحيح. لذلك فإن مقاومة التغيير كانت قائمة أيضا على بعض المستويات، لمجرد رغبة البعض في التمسك بالوظائف. وطبعا كانت هناك جيوب حاولت الإبقاء على الثقافة الإعلامية القديمة. كان لازما أمام هذا التفكير اتخاذ حلول جذرية، من خلال استقطاب دماء جديدة من خارج المحطة، وهناك بدأت رحلة البحث عن الكفاءات. وقد تم في موازاة ذلك وضع نظام عمل جديد ونظام لتقييم أداء العاملين بالمركز وتصنيف مختلف الوظائف والعمل بمبدأ الثواب والعقاب وما شابه ذلك من الأمور المألوفة. كان لا بد أن أشير قبل كل شيء إلى أن هذا المركز كان تابعا لتلفزيون أبو ظبي الذي أصبح تابعا بدوره لمؤسسة الإمارات للإعلام، وهي مؤسسة أنشئت لتكريس الفصل بين وزارة الإعلام ومصالح الإعلام المختلفة، ومنها سبع محطات إذاعية والتلفزيون بقنواته الثلاث والمطبوعات، بما فيها صحيفة الاتحاد ومجلة زهرة الخليج ومجلة ماجد الخاصة بالأطفال. وتلك الوصاية التي تم إسقاطها بين الوزارة وهذه المصالح أعطت للمؤسسة قدرا كبيرا من الحرية في التعاطي مع الأخبار، بعيدا عن القيود السياسية. فبات الهاجس الأول هو كيفية إيجاد جهاز إعلامي قادر على المنافسة وتقديم أخبار للمشاهد العربي خالية من الرقابة. ومؤسسة الإمارات للإعلام التي أصبحت مستقلة بذاتها، وأصبحت لها موارد مالية تقوم على الدعاية والإشهار فضلا عن الدعم الحكومي، لأنها كانت في بداياتها، كان لا بد أن تستعين بشركات عالمية لإعادة الهيكلة وبناء هوية جديدة واستقطاب عناصر قادرة على النهوض بالمؤسسة إعلاميا، فتم تعييني نائبا لمدير الإذاعة والتلفزيون وتكليفي برئاسة لجنة إعادة تشكيل هوية المؤسسة، كما أنشأنا لجنة خاصة لاستقطاب الكفاءات، فتمكنا من ضم العديد من الإعلاميين، وبينهم إعلاميون من المغرب، وكلهم برهنوا عن كفاءة عالية.