في جلسات حوار مطولة، هي على شكل اعترافات، تحدث الزميل محمد ذو الرشاد، وهو من أبرز الإعلاميين المغاربة، الذين وضعوا اللبنات الأولى في العمل المهني، في حقل السمعي البصري، عن معارك خاضها رفقة زملاء له آخرين، من أجل إصلاح الأوضاع داخل التلفزيون المغربي. وتطرق إلى تفاصيل ملموسة لتدخل وزارة الداخلية في توجيه التلفزيون المغربي. وقارن بين ماضي القناة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وحاضرها. وقدم حكايات أخرى عن تجارب له في أمريكا وفي منطقة الخليج، قبل أن يعود مجددا، في اعترافاته، ليتحدث عن القناة الأولى، وهو الذي كان من نجومها، في وقت من الأوقات، يشرف على نشراتها الإخبارية ويقدمها في بعض الأحيان, ويغطي ويواكب أنشطة الملك الراحل الحسن الثاني، سواء داخل أو خارج المغرب. - الغريب في ما حكيته هو أن بعض الأسماء التي ذكرتها في نواة التغيير داخل القناة هي نفسها التي كرست هذا الوضع القائم داخل القناة؟. لا أدري هل كان محمد المودن راضيا أم لا عن الوضع وقت تولي الداخلية للشأن الإعلامي. كنا نتواصل بين الفينة والأخرى وكنا نلتقي في المغرب وأمريكا ونتحدث دون الدخول في التفاصيل، ولا أدري فعلا هل ظل محمد المودن يؤمن بفكرة التغيير، ولا يمكنني التحدث باسمه، ولكني احترمت وقفته في مشروع التغيير أيام الوزير الفيلالي. ما أعرفه بصورة عامة هو أنه لم يكن راضيا عما يجري. ربما هو أيضا تعرض لبعض المشاكل فيما بعد. وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن المشكلة التي نعاني منها فعلا هي أن الصحفي لدينا لا يستمر في عمله فترة طويلة، بخلاف أمريكا وأوربا. لاحظ «البي بي سي» مثلا، كلما تقدم الإعلامي في السن، كلما زادت قيمته في المحطة وأصبح أكثر مصداقية، أما عندنا نحن، فإننا نؤمن بأنه عندما يصل الإعلامي إلى سن معينة، فإن أمره ينتهي. لكن الواقع يقول إن الإعلامي بمجرد أن يقرر الدخول في المجال، فإنه يبقى إعلاميا إلى أن يقبر. في أمريكا مثلا، كبار الإعلاميين في التلفزيون، وحتى في الصحافة المكتوبة، هم أساس الإعلام. وولتر كرونكايت، رائد المذيعين، لم يتخل عن التلفزيون، ولو أنه ترك تقديم الأخبار، فإنه ظل لصيقا بالعمل الإعلامي مقدما لبرامج وثائقية وتحقيقات إلى أن توفي. وهناك بيتر جانينغز، الذي ظل يقدم الأخبار على «إي بي سي» إلى أن توفي. باربرا وولترز الآن، كم عمرها؟ ولاري كينغ؟ إنها أمثلة فقط على ما أقول. وهناك شخصية إعلامية أمريكية أخرى اسمها هيلين طوماس، هذه الصحفية ذات الأصول العربية عمرها الآن تسعون سنة، وكانت رئيسة هيئة مراسلي البيت الأبيض على مدى عشرات السنين. هذه السيدة كانت في البيت الأبيض منذ عهد الرئيس كينيدي، أي أنها تمارس عملها منذ حوالي ستين سنة، وقد ظلت حتى عهد قريب جدا، تستيقظ كل صباح وتذهب إلى البيت الأبيض لحضور المؤتمرات الصحفية بشكل يومي وتطرح الأسئلة، وهي إعلامية مشاغبة جدا ومحترمة، وقد سميتها في شريط مصور أنتجته للجزيرة «أيقونة الإعلام الأمريكي». ظلت هيلين طوماس على رأس عملها إلى أن أجبرت مؤخرا على الاستقالة بسبب ملاحظة عابرة أدلت بها لأحد الحاخامات، قالت له فيها إن على الإسرائيليين الرحيل عن فلسطين والعودة إلى البلدان التي جاؤوا منها كبولونيا وألمانيا وأمريكا. عندنا العكس هو الذي يحدث، نفضل أن نأتي بفتاة جميلة ونحيفة وبلباس معين لتقدم الأخبار حتى يشاهدنا الناس. باتريك كليمون عندما جاء بمشروعه إلى التلفزيون غير في الشكل لكنه لم يغير في المضمون. وعندما انتقلت إلى واشنطن، كان هناك وفد مغربي ذهبت لاستقباله، وقدمني أحدهم إلى مسؤول عن المخابرات المغربية «لادجيد»، وكنا جالسين نتحدث عن المجال الإعلامي، فسألني عن رأيي في التلفزيون، فأجبته بصراحة تامة، وقلت له إن أكبر خطأ يتهدد النظام في المغرب هو التلفزيون وطريقة معالجة أخبار الملك. اندهش الرجل لمّا سمع هذا الكلام، وطلب مني مزيدا من التوضيح. - وما هي التوضيحات التي قدمتها له؟
قلت له إن الطريقة التي تقدم بها أنشطة الرسمية غير مهنية وكنت طبعا أتحدث عن الملك الراحل الحسن الثاني. وأنا هنا أدلي بوجهة نظري من الناحية المهنية فقط، وأما إذا كان الأمر يتعلق بقرارات سياسية، فهذا ليس لي أي دخل فيه، لا من قريب ولا من بعيد. - والمسؤولون عن الإعلام يعتبرون أن الطريقة التي يعملون بها هي أنسب وسيلة للتعريف بأنشطة الملك؟
أنا لا أشك في أن المغاربة يحبون الملك محمد السادس ومتعلقون بالعرش، كما لا أشك في أن المغاربة كانوا يحبون ملكهم الراحل الحسن الثاني. وهذا شيء طبيعي، لكن عندما يذهب الملك لتدشين مشروع معين ويلتقي بالشعب، فنحن لا نعرف أي شيء عن المشروع إلا ما يقدم من صور التدشين أو اللقاءات والخطب. فحتى في أيام الملك المرحوم الحسن الثاني، عندما كنا نغطي زياراته وأنشطته الرسمية في الداخل والخارج، كنا دائما نحرص على أن نقدم نبذة عن المشاريع المبرمجة للزيارة أو عن المناطق أو الدول التي كان يزورها، وعن العلاقات التي تجمع المغرب بتلك الدول في شتى المجالات، ورغم ذلك لم نكن راضين كل الرضا. كنت يومئذ، وما زلت إلى اليوم، أرى أن طريقة تقديمة الأنشطة الرسمية تستوجب وقفة تدبر من المسؤولين عن الشأن الإعلامي. ففي عصرنا هذا دقيقة واحدة أو دقيقتان ضمن نشرات الأخبار كافية لإيصال الرسالة إلى المشاهد بطريقة علمية شيقة، وما تبقى يمكن فيه تسليط الضوء على الملفات الكبرى المطروحة، والتي لولا أهميتها القصوى، لما قرر الملك أن يتولى أمرها بنفسه. لكن ما يثير استغرابي حقا هو أن صيغة تقديم الأنشطة الرسمية لم تتغير، والقوالب التي كانت مستعملة في الماضي هي ذاتها التي تستعمل اليوم، وهذا من وجهة نظري غير معقول، إذا نظرنا إلى التطور الذي عرفه ويعرفه المغرب على أصعدة كثيرة. سوف ترى أن هناك من سينبري للدفاع عن الأسلوب المتبع حاليا في معالجة الأنشطة الرسمية، ولكن أنا متيقن من أن هؤلاء، في قرارة أنفسهم، ليسوا راضين عن ذلك الأسلوب، ولكنهم لا يستطيعون الجهر بذلك. وأنا هنا أدلي برأيي الخاص، وبمنتهى الصراحة.