رغم أن مهمة الصحافة المغربية منذ بداياتها كانت وما تزال هي تسجيل الحدث وتدوينه، من خلال الإخبار به، إلا أن تاريخ هذه الصحافة ظل دون تدوين، ما عدا محاولات قليلة جدا ومحدودة ومتفرقة حصلت قبل أكثر من عقدين من الزمن. في هذه الحلقات نحاول أن نستعيد تاريخ الصحافة المغربية من خلال نماذج من الصحف التي صدرت بالمغرب منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، والأدوار السياسية والاجتماعية التي لعبتها، على اعتبار أن كتابة تاريخ الصحافة المغربية هي إعادة كتابة لتاريخ المغرب، وأن هذه الصحف اليوم تشكل وثائق مهمة تساعدنا على قراءة تاريخنا الحديث. ظهرت جريدة «التحرير» كلسان لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد الانشقاق الذي حصل داخل حزب الاستقلال عام 1959، وكان يديرها الفقيه البصري ويرأس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي. ونشأت «التحرير» مباشرة بعد الانفصال الذي وقع في 25 يناير من نفس العام، لذلك عكست منذ أعدادها الأولى مواقف الحزب الجديد وكانت تنشر خلال الأعداد الأولى وقائع الصراع والاقتتال الذي دار بين الحزبين في عدد من المناطق، والذي كان يخلف قتلى وجرحى عقب مواجهات بين أنصار الفريقين تستخدم فيها السكاكين والفؤوس لتصفية الحسابات. لكن الجريدة سرعان ما منعت شهورا قليلة بعد ذلك التاريخ، بقرار من مجلس وزاري، في ظل حكومة كان يرأسها عبد الله إبراهيم المحسوب على الحزب الجديد، وكان المنع لسببين، الأول أن الجريدة نشرت خبرا بدون تعليق مفاده أن الأمير مولاي الحسن تعرض لمحاولة اغتيال، وتم اعتبار نشر مثل هذا الخبر مسا بالأمن والاستقرار، والثاني أنها أطلقت على الصحافة في إحدى المقالات لقب صاحبة الجلالة، وتم اعتبار ذلك مسا بشخص الملك. وفي إطار حملة إعلامية لشرح مواقف التيار الجديد نشرت «التحرير» في عددها الرابع بتاريخ 5 أبريل 1959 حوارا مع المهدي بن بركة كانت قد أجرته جريدة «الحياة الفرنسية»، يقول فيه بن بركة «إنني لست منشئ حركة 25 يناير، وهذه الحركة قد انبثقت من القاعدة, كما أمكن أن يتأكد الجميع من ذلك, ليس لها أي طابع شخصي، وإن هذا الخلط ناتج عن كوني أعلنت عن استقالتي من اللجنة التنفيذية ليلة 25 يناير التي كنت قررت منذ شهرين تقديمها، ومن هنا نشأ الخلط الذي عمل على ترويجه بعناية كاملة أولئك الذين يأبون أن يروا في هذه الحركة مجرد نزاع شخصي بين بن بركة وعلال». وفي نفس العدد في الصفحة الأولى نشرت الجريدة مراسلة من وجدة تحت عنوان «الحقيقة حول حوادث بوعرفة» تروي فيه قصة الاقتتال الذي حدث في المنطقة بين أعضاء من اللجنة الإدارية لحزب الاستقلال واستقلاليين انشقوا عن الحزب والتحقوا بالحركة الجديدة التي كان يقودها بن بركة والفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد. ويبدو أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان يريد إيجاد شخصية تنتمي إلى جامعة القرويين يمكنها أن توازي أو تضاهي كاريزما علال الفاسي في حزب الاستقلال، لذا نلاحظ أن جريدة «التحرير» نشرت حوارا في الصفحة الأولى في العدد الثامن من الجريدة يوم 9 أبريل 1959 مع وزير التاج بن العربي العلوي تحت عنوان «شيخ الإسلام سيدي محمد بن العربي العلوي يتحدث للتحرير عن الإسلام والصحافة والشباب». وفي إطار الصراع السياسي الذي كان يدور بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني كانت الجريدتان تتبادلان التهم في مقالات وافتتاحيات نارية، وأحيانا كان يتم ذلك باللجوء إلى توظيف مقدسات البلاد مثل المؤسسة الملكية، مثلما فعلت «التحرير» في العدد 26 يوم 28 أبريل 1959 عندما نشرت في أعلى الصفحة الأولى على اليسار مقالات تحت عنوان «النهاية في السفالة والوقاحة: «العلم»وهاشم يسوءان الأدب مع جلالة الملك»، قالت فيه «تجاوزت أمس صحيفة «العلم» وهاشم، أحد مهرجي النقابات الحرة المزعومة، كل حدود اللياقة وبلغا حدا أقصى من السفالة والوقاحة، فقد تجرأ هاشم المذكور على إرسال برقية دنيئة إلى مقام جلالة الملك وتجرأت تلك الصحيفة على نشر تلك البرقية رغم أنها تعتبر، بدون تردد، هجوما تعدى كل حدود «التحرر»على المقام الشريف وتهديدا لا يصدر إلا عمن تسرب اليأس إلى نفوسهم... ولن يقبل أي مغربي حر أن يسكت وهو يقرأ في صحيفة تزعم دون حياء أنها مخلصة للعرش وللمقدسات الوطنية وتتمشدق بذلك «الإخلاص» مثل هذه العبارة(سكوت جلالتكم تشجيع للقتلة)». وبعد يومين عادت الجريدة لتنشر في نفس الركن خبرا تحت عنوان «تقررت متابعة هاشم وجريدة العلم»، يضم بلاغا أصدرته وزارة العدل في الموضوع، وقالت الجريدة في نهاية الخبر: «هذا وقد علمنا أن الشرطة القضائية قد ألقت القبض على المدعو هاشم الذي تطاول على مقام صاحب الجلالة لمتابعته وتقديمه للمحاكمة».