قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... أمر الواثق كبير الشرطة بإحضار شيخ مكبلا في أغلاله اشتهر بمعارضته لخلق القرآن، لمناظرة ابن أبي دؤاد، فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة. فقال الشيخ: يا أحمد يا ابن أبي دؤاد إلام دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: أن تقول: القرآن مخلوق ولأن كل شيء دون الله مخلوق. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول. فقال: أفعل. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا، حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. فقال الشيخ: أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله عز وجل إلى عباده، هل ستر شيئا مما أمره الله به في دينه. ؟ فقال:لا. قال الشيخ: أفدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: تكلم، فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين قل: واحدة. فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل آخر القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا». أكان الله صادقا في إكماله أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه، فيكون كاملا، فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، قل: اثنتان. فقال: اثنتان. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها. ؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. فقال: أفدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين قل: ثلاثة. فقال الواثق: ثلاثة. فقال الشيخ: يا أحمد، أفاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم: فقال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؟ فقال ابن أبي دؤاد: نعم. فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت أن أحمد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين ألم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له منا ما اتسع لهم من ذلك. فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر عثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، ثم قال: إقطعوا قيد الشيخ. فلما قطع ضرب الشيخ بيده فأخذ القيد فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم فعلت هذا؟ فقال الشيخ: لأني نويت أن أقدم إلى من أوصي إليه إذا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله عز وجل يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي. وبكى الشيخ وبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله منه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أنت رجل من أهله. فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت. فقال الواثق: تقيم عندنا ينتفع بك فتياننا؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عندك، فقال: ولم ذلك؟ فقال: لأسير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عنك، فقد خلفتهم على ذلك. فقال الواثق: أفتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أنا غني وذو ثروة، قال: أفتسألنا حاجة، قال: أو تقضيها؟ قال: نعم. قال: تخلي سبيلي إلى السفر الساعة وتأذن لي. قال: أذنت لك. فسلم عليه الشيخ وخرج، فقال المهتدي بالله، فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم. ابن آدم وقف رجل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، صل رحمك وارحم أقاربك وارحم رجلا من أهلك. فقال الواثق: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم؟. قال: ابن جدك آدم. فقال: يا غلام، أعطه درهما، فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع بالدرهم؟ قال: أرأيت لو قسمت المال بين إخوتك أولاد جدي أكان ينوبك منه حبة. فقال: الله درك ما أذكى فهمك. فأمر له بعطاء وانصرف مكرما. خلافة أمير المؤمنين المعتصم بالله أحمد كان يسمى السفاح الثاني، لأنه جدد ملك بني العباس بعد أن أخلقته الأتراك وأذلته، ولقد اتفق في أيامه، على ما حكي، أمر فظيع كشفه الله له هيبته في نفوس الناس، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتم ما في نفسه مخافة صولته لأنه كان لشدة حذقه، يتخيل لهم أنه يعلم ما في نفس الإنسان من الضمير. فاتفق أن أحد وزرائه وأكبر قواده بنى بناء عاليا مشرفا على منازل جيرانه، فلم يعارضه أحد فيه من جيرانه لمكانته من سلطانه وعزه، وكان يجلس كثيرا في ذلك البناء، فرأى يوما من الأيام في دار من دور جيرانه جارية بارعة الجمال، فولع بها، فسأل عنها، فأخبر أ نها بنت أحد التجار، فأرسل إلى والدها خاطبا، فقال له أبوها، وكان من أهل اليسار: لست أزوجها إلا من تاجر مثلي، فإنه إن تزوجها من هو مثلي لم يظلمها، وإن ظلمها قدرت على النصفة منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على النصفة منك، ولا على الحيلة لنصرها. فلم يزل يرومه في ذلك بكل أمر وتوسط إليه بالأكابر والأماثل من الناس، وهو مع ذلك يمتنع، فلما يئس منه أن يجيبه، شكا إلى أحد خواصه فقال له: ألف مثقال يقوم لك هذا. فقال: كيف ذلك؟ والله لو علمت أني أنفق عليها مائتي ألف مثقال أو أكثر وتأتيني بها لفعلت، قال له: عليك أن تحضر لي ألف دينار. فأمر بإحضارها فمشى بها ذلك الرجل إلى عشرة رجال كانوا عدولا عند القاضي في شهادته وذكر لهم الأمر، وقال: هذا أمر ليس عليكم من الله فيه تبعة، فإنه يصدقها كذا وكذا ألفا، وأغلى لهم المهر، وإنكم تحيون نفسا أشرفت على الهلاك، ويكون لكم عنده مع هذا من الجاه ما ترغبون، وأبوها إنما هو عاضل لها عن الزواج، وإلا فما يمنعه من ذلك، وقد خطبها مثل فلان في جلالة قدره ومكانة أمره، وقد أعطاه صداقا لا يعطى إلا لبنت ملك، ثم هو مع هذا يأبى، هل هذا إلا عضل بين؟ ولكن لكم ألف مثقال لكل واحد منكم مائة وتشهدون أنه قد زوجها به، فإنه إذا علم أبوها بأنكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا إذ ليس فيه إلا الخير والخيرة. فأخذ الشهود كل واحد منهم مائة وشهدوا أن أباها زوجها على صداق مبلغه كذا، ورفعوا في الصداق إلى غاية ما ترفع إليه صداقات الملوك، فلما علم أبوها بذلك زاد نفارا وإباء، فمشى الوزير وذلك القائد إلى القاضي وقال: إني تزوجت فلانة بنت فلان على هذا الصداق، وهؤلاء شهدوا عليه، ثم قد نكرني وأنكر الشهود، وقد أردت أن أدفع له حق ابنته وآخذها. فأمر القاضي بإحضار الشهود فشهدوا عنده وأحضر مال النقد بين يدي القاضي، والرجل على إنكاره متماد، فأمر القاضي بإمضاء الحكم عليه، وأن تؤخذ ابنته منه أحب أو كره، وأمر بحمل المال إليه، فلما وصلت الجارية عند الوزير، لم يزل أبوها يروم الوصول إلى المعتصم. وكان المعتصم غليظ الحجاب لا يصل إليه أحد من غير الخاصة، فقيل للرجل إنه يحضر كل يوم ساعة من النهار على بنيان له بقصره، فإن استطعت أن تكون مع جملة رجال الخدمة تصل إليه وتكلمه بما أردت. ففعل الرجل ذلك وغير شكله، ودخل في جملة رجال الخدمة للبناء، فلما كان ذلك الوقت الذي كانت عادة أمير المؤمنين المعتصم يقف فيه على ذلك البناء خرج ذلك الرجل فترامى إلى الأرض وجعل يحث التراب على رأسه ويستغيث، فسأله عن شأنه فقص عليه القصة، فأرسل المعتصم في ذلك المقام، خلف ذلك القائد وأغلظ عليه في القول، فحملته هيبته له، وقلة إقدامه على الكذب عليه، أن وصف له الصورة على ما كانت عليه، وهو يطمع أن يعذره في ذلك، إذ قد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، وأمر بإحضار الشهود فصنعوا مثل صنيع صاحبهم وذلك كله رهبة له وإجلالا أن يخاطبوه بكذب مع تخيلهم أنه يصفح لهم عن هذه الزلة إذ قد أرادوا إحياء نفس ذلك الوزير، وأيضا قد دفع له بين يدي القاضي نقدا لا يكون إلا في صدقات الملوك، وقد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، فكأنه قد أخذها بحقها أو بأكثر من حقها. فلما تحققت عنده جلية الخبر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يوضع ذلك الوزير في جلد ثور طري السلخ، ويضرب ويطعم لنمور كانت عنده، ثم أمر الرجل أبا البنت أن يأخذ البنت ويأخذ كل ما ذكروا لها على ذلك الوزير في صداقها من عقار ودور ومال. ثم مات المعتصم وولي ابنه المقتدر وكان صبيا صغير السن، فعادت الأتراك إلى ما كانت عليه من ذلك.