قدمت الثورة الجزائرية دروسا عظيمة إلى كل الشعوب التواقة إلى التحرر والانعتاق من هيمنة الاستعمار وأزلامه، فكانت محط متابعة ومساندة وتعاطف واقتداء، لأنها ببساطة كانت ملحمة في التضحية والبذل والعطاء، شاركت فيها كل الحساسيات المذهبية والإيديولوجية والعرقية والثقافية، من أجل أن تتحرر الجزائر من كل ما يمت إلى الاستعمار بصلة، سواء كان لغويا أو تراثيا أو سياسيا أو تنظيميا أو قياديا أو ترابيا أو عرقيا أو إنسانيا أو اقتصاديا. لقد وقف الجزائريون البسطاء بحزم ضد كل أشكال التبعية والاندماج والخيانة والعمالة والذوبان، وتحدوا كل أشكال الغطرسة ومحاولة تدمير الهوية داخل الذات الجزائرية. غير أن الاندحار التاريخي للاستعمار الفرنسي لم يكن بداية الرخاء والحرية وتكريم الإنسان، بقدر ما أدخل البلد في نكسات ومآس يدفع ضريبتها اليوم أبناء الشهداء وحفدتهم، بشكل أثبت بالملموس مقولة «الثورة تأكل أبناءها»، عندما دخل رفاق السلاح في حروب استعملت فيها شعارات الثورة للانقلاب على الثورة، سخرت فيها ثروات الشعب لخنق الشعب، وهذه ظلت بمثابة اللازمة لكل مراحل تطور الحياة العامة في الجزائر منذ استقلالها إلى اليوم، ليتبين للشعب الجزائري، بعد مرور 48 سنة على استقلاله، أن حسابات الثورة ليست هي ما بعدها، فالثورة أطاحت بمستبدين من طينة «إفرنجية» وأتت بمستبدين من طينة «وطنية».. فإذا كان الجزائري إبان الثورة وجه رصاصاته نحو صدر المستعمر العنصري، فإنه اليوم يوجه رصاصاته إلى ظهر أخيه ويلقي بعبواته تحت أقدامه، وآخر فصول ذلك حمام الدم الذي اقترفه إرهابيو القاعدة، ناهيك عن حملات الاستئصال التي تطلق فيها القوات الأمنية يدها بتسيب في القرى والمداشر التي تتهمها هذه القوات بالتعاطف مع «القاعدة»، ليجد أهالي الجزائر أنفسهم خائفين ومترقبين، فالقاعدة تتهمهم بالعمالة، والعسكر يتهمهم بالتعاطف، وكلاهما في النار حطب... ففرنسا لم تعد العدو الأول بل العدو الرئيسي بالنسبة إلى المواطن الجزائري في الجبال والصحارى والمدن، هو المتربص الغامض خلف الزناد، فقد يحصل أن يصادف هذا المواطن حاجزا أمنيا، ويده على قلبه لأنه يجهل هوية المتربصين، فلا يعرف إن كانوا مع الدولة أو ضدها. فرنسا قتلت على مدى 130 سنة مليون شهيد، والإخوة الأعداء قتلوا في عقد واحد ربع مليون، فالوضع الأمني في الجزائر اليوم يسمح بهامش كبير للحسابات، فقد يقتل الجيش وينسب ذلك إلى القاعدة، وقد تقتل القاعدة وينسب ذلك إلى الجيش، وقد يقتل شخص انتقاما أو لمجرد نزوة، وعندما ينادى على الأمن لا يحضر خوفا من كمين، لتقيد ضد مجهول كعادة كل الأنظمة التي تستهين بأرواح مواطنيها. إبان الاستعمار كان الجلاد واضحا والضحية أيضا، أما الآن فقد اختلطت شخوص المسرح الدموي، ليبقى السؤال هو ما الذي يوجد في حاضر الجزائر اليوم يجعل الشعب الجزائري يحتفل بسنوية الثورة؟ في كل سنة تجتمع خلايا الاحتفال بعيد الاستقلال في الولايات، وتصرف ملايين الدينارات في احتفالات تطغى عليها المتاجرة والاستغلال الفظيع للتاريخ، لأن النظام العسكري في الجزائر يدرك أن قيمة الثورة الجزائرية عظيمة، وأنه لا شيء يمكن أن يسحر نفوس الجزائريين مثل هذه المناسبات التاريخية التي كتبت بحروف من ذهب.. لكن بالنسبة إلى الشعب الجزائري الذي يرى ثرواته يتكدس جزء منها في جيوب «حراس الثورة»، وما تبقى يصرف في صفقات التسليح، ويرى كيف خرج وزير المالية يدافع عن سياسة التقشف ليفاجأ بالدولة تصرف ملايين الدنانير على مباراة في كرة القدم هذا الشعب يرى اليوم بأم عينيه تواصل سياسة التفقير.. باختصار، هذا الشعب، تحول عيد الاستقلال بالنسبة إليه إلى مجرد عطلة مدفوعة الأجر.. هناك عملية تزوير رهيبة خضع لها تاريخ الثورة الجزائرية، إذ إن هناك مجموعة من المتنفذين في السلطة الجزائرية، زوروا تاريخ آبائهم وصاروا صناع القرار في بلد المليون شهيد، ومنحوا أنفسهم أوسمة ووضعوا على صدورهم نياشين المشاركة في الثورة، ويقفون كل سنة دقيقة صمت ترحما على أرواح الشهداء، فيما أبناء الشهداء الحقيقيون يغرق فيهم العشرات كل حين لكونهم يفضلون «حكرة» النصارى على «حكرة» أولاد البلاد، هؤلاء المزورون الذين يطالبون فرنسا اليوم بالاعتذار عن المرحلة الاستعمارية أمام الكاميرا هم أنفسهم من يستفيدون من استثماراتها البالغة قيمتها 14 مليار دولار هذه السنة وحدها، وهم من يسمح للشركات الفرنسية البالغ عددها 420 شركة بالسيطرة على القطاعات الحيوية بالجزائر، إذن عندما تحتفل الدولة الجزائرية باستقلال البلد، أليست حقيقة الأمر هي احتفال بوراثة البلد؟ اليوم، يتعرض الشعب الجزائري لأكبر عملية تضليل، عندما حول الجنرالات قضية فئوية كقضية الصحراء المغربية إلى قضية «وطنية»، بل وحولوها إلى محرم وطابو، فلا أحد يتجرأ في «جزائر الحرية» على فضح مزاعم «الدفاع عن حق الشعب الصحراوي»، فالجميع متواطئ أو خائف، فلا أحد يطالب النظام العسكري في الجزائر بكشف الحساب، ليعرف المواطن الجزائري الفاتورة التي يدفعها حكامه باسمه للبوليساريو بمآسي بني جلدتهم. يبدو أن الثورة أكلت أبناءها بعيد الاستقلال وأضحت بقرة حلوبا على بعد 48 سنة عن اندلاعها، بشكل نزع عن الشعب الجزائري الهالة المضيئة التي أحاطت به عبر عقود وجعلته رمزا لأحرار العالم، فإذا كان الفرنسيون قد انشغلوا غداة الاستقلال باحتمال تحول الجزائر إلى كونغو جديدة، إذ إن الكونغو كانت تشهد آنذاك حربا أهلية، تنتهي بالبلاد إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي، فإن تخوفهم لم يعد حبيس صدروهم بل امتد ليكون حديث الساعة في كل بيت ومقهى جزائري..