كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. لحظتان ستتقاطعان في حياة الجنرال محمد أوفقير في الثالث عشر من يوليوز 1971، وفي السادس عشر من غشت 1972. عام وشهر وثلاثة أيام، هل كانت المدة كافية لاستيعاب الدرس، ففي المرة الأولى يقول آخر من شاهده، إنه كان قلقا وغامضا وتسيطر عليه نزعة يريد إخفاءها. كان ارتدى لباسه العسكري وزين صدره بنياشينه وأوسمته، ونزل من سلم الدرج في إقامته في السويسي، لا يريد أن يكلم أحدا أو يكلمه أحد. غير أنه في ساحة الرماية عند مدخل تمارة على المحيط الأطلسي من جهة الرباط، سيكون على موعد مع نهاية موعودة لجنرالات وضباط، كان يعرفهم واحدا واحدا. ولم يشأ أن يحدق كثيرا في وجوههم. وحين سمع الكلمة الأمر، صاح في وجه جنود كانوا يصوبون بنادقهم في اتجاه الأجساد المقيدة إلى أعمدة نصبت مثل مشانق. ثم قال :- أطلقوا النار! انتهى كل شيء في لحظة، وحين كانت سيارات رسمية تغادر المكان، تحركت عربات مصفحة لإكمال عملية دفن الجثامين تحت التراب، فيما أقيمت جنائز في بيوتات أولائك العسكريين في مدن عديدة، لم يحضرها أحد من المسؤولين. نحن الآن في الثالث عشر من يوليوز 1971. وبعد عام بالتمام والكمال، سيكون الجنرال أوفقير جالسا في مكتبه، يدير قرص الهاتف للتأكد من موعد عودة الملك الحسن الثاني من زيارة خاصة إلى باريس، وقف الجنرال وبدأ يفرك يديه ببعضهما مثل عادته في لحظات معينة، كان يدلف مكتبه في إقامة «ليوطي» في الرباط ذهابا وإيابا، فالعودة لن تكون إلا في السادس عشر من غشت. المشهد نفسه يتكرر، مع اختلاف في الأوضاع، في المرة الأولى غادر الجنرال إقامته صباحا، وفي المرة الثانية سيغادرها ليلا. بعد أن أتعبه البحث عن شيء كان أضاعه إلى الأبد. إنه ثقة الحسن الثاني التي فقدها دفعة واحدة وللمرة الأخيرة. مساء اليوم ذاته لم يكن عمل رجال آخرين قد انتهى، كانت الاستخبارات وقوات الأمن والدرك تتحرك في الاتجاه الآخر لإحباط النفس الأخير في المحاولة الانقلابية. كان العقيد الدليمي رفقة الملك في طريق عودته إلى المغرب، وشاءت ظروف أن ينجو بدوره كما في المرة الأولى من موت محقق، وكانت تلك فرصته للانقضاض على الموقف. كان الظلام يرخي سدوله على العاصمة المتعبة التي لم تنم ليلتها، كانت الصحف التي تصدر في غالبيتها من الرباط ليلا علقت الصدور، وكانت التساؤلات حول ما حدث تطرح على كل لسان. من منطقة مولاي بوسلهام إلى الرباط، ستبدأ ملابسات الحادث في الانقشاع، فالرائد كويرة الذي هوى بطائرته العسكرية للارتطام بالطائرة الملكية في الأجواء، كان في طريقه إلى الرباط، مقيد اليدين ومعصوب العينين. إلى أين ياترى؟ لا أحد كان يعرف، غير أن رفاق الرائدين كويرة وأمقران الذين قضوا معهما شهورا في سجن القنيطرة، بعد انتهاء التحقيقات وصدور أحكام بإعدامهما إلى جانب آخرين، سيحكون بعض التفاصيل، ومن ذلك انهما نقلا من سجنهما إلى مكان مجهول. كانت تلك المرة الأخيرة التي يغادرا فيها السجن وهما على قيد الحياة. هل ذهبا لملاقاة الملك الحسن الثاني أم لمعاودة التحقيق معهما في قضية بقيت عالقة. سيدور بين كويرة وأمقران حوار عاصف في زنزانة الاعدام، وسيحتاج الأمر إلى سنوات، حتى تتسرب بعض المعلومات. أقربها معاودة استحضار شريط الأحداث من البداية، وكيف أن اتصالات جرت مع أمقران حين كان يعالج في أحد مستشفيات باريس على نفقة الملك من هم الأشخاص الذين زاروه؟ وما هي درجات مسؤولياتهم في قيادة المعارضة، وخصوصا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟ وأي رسالة حملها إليه حسن البصري شقيق المعارض الفقيه محمد البصري؟ ولماذا زارته زوجة الجنرال محمد أوفقير هناك؟ إلى غير ذلك من الأسئلة. ستعرض بعض الروايات إلى أن كويرة تناول عشاءه الأخير مع الملك، وأنه التقاه قبل ذلك في مكان ما. غير أنه لا توجد دلائل قوية على ما حدث فعلا. فيما ستشير وقائع إلى أن الجنرال أوفقير بعد توليه مسؤولية وزارة الدفاع ركز اهتمامه أكثر على القاعدة العسكرية في القنيطرة التي زارها مرات عديدة، فقد كان بصدد استقطاب منفذي مشروعه الثاني الذي لم يكتمل. الأكيد أن الملك الحسن الثاني وقد عاين مظاهر خيانة الجنرال الذي وضع فيه كل الثقة، ظل في إمكانه أن يستوعب مثل هذا الانحراف الذي تحكمت فيه طموحات هوجاء، غير أنه وفق مقربين إليه لم يستسغ كيف أن بعض الأطراف في المعارضة وضعت يدها في يد الجنرال التي بقيت ملوثة بدم المعارض المهدي بن بركة. من يومها نقلت مقولة عن الملك الراحل الحسن الثاني أنه دعا بعض معارضي حكوماته إلى أن ينسوا تاريخ الصراع السياسي على السلطة في مقابل أن يتناسى شخصيا تورط بعضهم إلى جانب أوفقير. مثل رفاقه من جنرالات الصخيرات، لم يتأت إخضاع الجنرال أوفقير إلى محاكمة، فقد جاء الاعلان عن انتحاره وفق الرواية الرسمية ليلة السادس عشر من غشت 1972 ليضع حدا لأي نزوع نحو كشف مناطق الظل في مخططه الانقلابي. غير أن زوجته وأفراد أسرته سيشككون في رواية الانتحار. ففي فجر اليوم الموالي، أي السابع عشر من غشت 1972، جيء بجثمان الجنرال إلى مقر إقامته.كان لا يزال يحمل اللباس العسكري بنياشينه وأوسمته، وقد علقت نظارته على سترته، وقبل أن تشرع العائلة في مراسيم تقبل العزاء. طرق الباب قادمون تمنوا على الأسرة وفق روايتها تسليمهم بذلته العسكرية التي كانت عليها بقع دم حمراء. تماما مثل جنرالات الصخيرات الذين خلت جنائزهم من أي حضور رسمي، سيتم نقل نعش الجنرال على متن طائرة عسكرية إلى بلدته عين الشعير ليدفن هناك، بعيدا عن الأنظار، لكن الصفحة لم تطو بعد. فبعد كل جولة تتوالد حروب من نوع آخر، أحيانا يدفع الأبناء ثمنها وأحيانا تغري آخرين باعتلاء الواجهة. لم يكن أوفقير مغامرا إلى الحد الذي يجعله ينفتح على بعض الأشخاص في المعارضة من دون أن يعد لذلك جيدا. فقد كانت تأسره نزعة استخدام كل الوسائل، وما من شك في أنه بعد أن خلا له الجو بإحكام السيطرة على المؤسسة العسكرية، زادت رغبته في استمالة وجوه سياسية. فقد كانت مشكلته الأولى والأخيرة تكمن في رفض رجالات السياسة مصافحته. وكان على إدراك بأن طول المسافة بينه وبينهم يعتبر عائقا، فالرجل الذي كان يكيف الملفات ويحبك السيناريوهات لإضعاف أي صوت معارض لا يمكنه أن ينتقل إلى الضفة الأخرى بلا مقدمات. يقول الملك الراحل الحسن الثاني إنه في كل مرة كان يعتزم فيها الانفتاح على المعارضة، كان أوفقير يدبر أمرا ما لإحباط ذلك الانفتاح. فعل ذلك في عام 1965، من خلال تداعيات اختطاف واغتيال المعارض المهدي بن بركة.ثم فعله لاحقا بعد المشاورات السياسية التي كانت انطلقت مع زعامات الكتلة الوطنية في عام 1972. ولم يكن بعيدا عن تصعيد المواجهة مع فصائل المعارضة بين عامين 1970 و1971. فهل كان يرغب في عزل النظام حتى يسهل عليه الإجهاز عليه؟ أم أنه كان طرفا في لعبة صراع أكبر من قدراته وإدراكه؟ فالثابت أن مجمل الأحداث التي عرفتها البلاد في النصف الأول لعام 1972، كانت تسير في اتجاه مغاير يميل إلى معاودة تصحيح العلاقة بين القصر والمعارضة. فقد استمرت المشاورات السياسية بين الطرفين، و في الوقت ذاته أعلن عن حل برلمان 1970 الذي لم تشارك فصائل المعارضة في انتخاباته، كما تقرر طرح دستور معدل جديد على استفتاء شعبي. وفي مقابل ذلك تحركت أياد خفية لإحباط هذا التقارب. فقد تعرض زعيم الاتحاد المغربي للشغل المحجوب بن الصديق إلى عملية اختطاف، كما جرى اعتقال عشرات الأساتذة والطلاب والنشطاء المنتمين إلى تيارات يسارية راديكالية، مما كان يشي بدفع الأجواء نحو المزيد من التوتر، كان من نتائجه القريبة إرجاء انتخابات تشريعية مقررة في ضوء الدستور المعدل لعام 1972.