كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. لسبب ما، ستنقل الكثير من الملفات الأمنية والعسكرية، منذ عام 1970 إلى العقيد أحمد الدليمي الذي كان سينكب على إعادة تنظيم قطاع الأمن والاستخبارات، سيفعل ذلك بحذر شديد كي لا يتسبب في انزعاج الجنرال محمد أوفقير الذي بدأ ينظر إلى صعوده بارتياب شديد، فقد كان تواقا إلى جمع مراكز نفوذ داخلي وخارجي تحت مظلة واحدة. لكنه حين سيطلب إليه الملك الحسن الثاني متابعة ملفات أمنية تخص حياة جنرالات متنفذين، سيفعل ذلك أقل مما يجب، كي لا يتعرض إلى غضبهم، سيما وأنه كان يدرك أن عين الجنرال أوفقير لا تفارقه. ذلك أنه من فرط حساسياته حيال الدخول في مواجهات مع عسكريين أعلى رتبة منه، سيختار أسلوب الانزواء بعيدا، فهو تمرس في عالم الاستخبارات والأمن، وجمع بين الإقدام العسكري والاحتراز الأمني، لكنه أبقى على مسافات أطول تجاه المؤسسة العسكرية. هل كان منذ ذلك الوقت يغمره طموح لاعتلاء سلم الدرجات، من دون إثارة آخرين، أم أنها المرحلة حتمت عليه الانكفاء كثيرا، إلى حين أن يخلو له الجو بعد غياب عسكريين أكثر نفوذا، في ظروف ترتبت على تداعيات حادث الصخيرات؟ كان صعبا على الدليمي الذي استقر به المطاف مديرا عاما للأمن الوطني بدرجة عقيد في الجيش أن يستوعب حقيقة ماحدث.فقد كان مهتما بأن يضع كثيرا من الأحداث والوقائع خلفه ويمضي قدما إلى الأمام. وكان يعتبر كل ما حدث في حياته قدرا، ولم يندم قط على ما فعله، لكن ظل أكثر ندما على الأشياء التي لم يفعلها أو ينتبه إليها في حينها، وهو إن كان خلال هذه الفترة يدين بشيء فإنه يدين إلى لعبة الأقدار التي جعلته ينجو من الموت المحقق مرتين على الأقل، الأولى في فناء قصر الصخيرات في يوليوز 1971، والثانية في مقصورة الطائرة الملكية في غشت 1972. حكى مرة لأحد رفاقه أنه حين كان صغيرا يزور بلدته “مزقوطة” في ضواحي سيدي قاسم، كانت تستهويه وأقرانه من الأطفال هواية استخراج العقارب من جحورها.وقد تعلم مع الزمن أن استخراج العقارب أهون من الاستسلام إلى لدغاتها الغادرة. لم يكن الرجل من طينة الذين يخشون الموت، فقد كان يرتضيه بصدر رحب في ساحة الميدان، لقد خاض معارك عسكرية لإحباط حركات تمرد، وعوقب أكثر من مرة بسبب عدم انضباطه، إلا أنه لم يكن يتقبل الموت على يد متمردين من الجيش الذي ينتمي إليه. عندما كان الدليمي يختلي بنفسه في تلك المرحلة من عام 1971. كان يتذكر كيف أنه اجتاز فترة ثلاث سنوات بعيدا عن التمرس في أي مهمة رسمية. وكان ذلك كافيا لجعله يعيد شريط الأحداث، وكيف أنه كان يقضي أيامه من دون أي رفيق غير أصدقاء أجانب ربطته وإياهم علاقات متشعبة من أيام جولاته في «الكاب واحد». فقد يكون لعبوره الصحاري في تلك الفترة الأثر الذي يجعله ينتقي أين يضع خطواته، خشية الألغام المزروعة في كل جانب. بيد أنه حين سنحت له الفرصة، وأصبح واحدا من المحققين، وأشرف شخصيا على استنطاق المتهمين العسكريين، كما اعتلى منصة المحكمة كواحد من القضاة العسكريين الذين أصدروا الأحكام، كان أكثر اندفاعا في إبراز وفائه. ولم يتقبل أن بعض تلك الأحكام لم تكن قاسية، فقد عارض بقوة استخدام سيف العدالة، وقال عنه إنه لم يكن قاطعا مثل السيوف التي تجز الرؤوس التي حان قطافها. وفي تفاصيل غير متداولة أن الدليمي أدرك قبل وخلال المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين أنه كان مستهدفا بدوره، لكنه لم يكن يعرف ممن تحديدا. كانت تراوده شكوك بأن علاقته بالجنرال أوفقير الذي كان رئيسه المباشر، لا يمكن أن تنتهي من دون أن يزيح أحدهما الآخر من مربع اللعبة. كذلك كانت له شكوك في أن المهام التي يضطلع بها في قضايا أمنية وعسكرية قد تجلب عليه غضب بعض الأسماء والوجوه. سيروي الدليمي في معرض إفادات خصوصية عن أحداث الصخيرات، بعد أن طواها النسيان، أنه مثل باقي الضيوف والأشخاص الذين حضروا الحفل الذي أقامه الحسن الثاني في قصر الصخيرات بمناسبة ذكرى ميلاده الثاني والأربعين، اضطر إلى الانبطاح أرضا، بعد أن سادت لغة الرصاص العشوائي الذي كان ينطلق في كل الاتجاهات ويحصد الأرواح من دون تمييز. في لحظة وصفها الدليمي بأنها لا تنسى أبدا، سمع عسكريا بدرجة أقل رتبة ينادي بأسماء شخصيات سياسية وعسكرية بأعلى صوته، لمح بطريقة لا تشير إلى موقعه وسط حشود المنبطحين أرضا أن الأسماء المطلوبة كانت تردى أرضا عبر طلقات الرصاص في ما يشبه الإعدام. غطى رأسه بيديه واستسلم لموقف لم يكن يدري كيف سينتهي. نودي على اسمه مرة ثانية وثالثة، لكنه تعمد ألا يجيب. كان إلى جانب ضابط سيصبح عقيدا ثم مسؤولا في الجامعة الملكية لكرة القدم، سرعان ما همس في أذنه: إنهم يطلبونك يا سيادة العقيد! ردعه الدليمي بمنكب يده، ورد بانفعال خافت: هل هذا وقت المزاح، أنا لست عقيدا، ولست الدليمي. أنا إنسان آخر. كان بالفعل أصبح انسانا آخر، منذ ذلك الوقت، فقد عهد إليه الحسن الثاني من موقعه كمدير عام للأمن الوطني بتقصي الأسباب الكامنة وراء ظهور تململ داخل الجيش، وكذلك إعداد تقارير ضافية حول الأوضاع الأمنية في البلاد، وأصبح يكلف بمهام على قدر كبير من السرية. وفيما بعد فهم ذلك الضابط بعد مرور الوقت، أن بديهة الدليمي كانت أكبر من الإذعان لخطة الانقياد إلى مصير كان ينتظره، لو ترجل واقفا. حكى الدليمي في وقت لاحق، أن تلك كانت المرة الأولى التي عاين فيها أن قدميه لا تستطيعان حمله، لكنه سيكون في مقدمة المترجلين عند الشروع في استنطاق المتهمين.وبدا أن الأيام التي كانت جمعته بالقائد السابق لقوات التدخل السريع الجنرال بن سليمان، عندما كانا بصدد تفكيك ألغاز مؤامرات معارضي النظام، خصوصا المنتمين إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مطلع ستينيات القرن الماضي، عادت - وإن في ظروف مغايرة- لتجمع العسكريين الثلاثة أوفقير وبن سليمان والدليمي، قبل أن تفرقهم المغامرات والمصائر. مساء العاشر من يوليوز1971 تنبه عامل طنجة حسني بن سليمان إلى أن الإذاعة المركزية تبث بيانات عن «الجيش الذي قام بثورة» وسرعان ما أجرى اتصالات أمر بعدها إذاعة طنجة بأن تبث الخبر اليقين: الملك لا يزال على قيد الحياة وسيخاطب شعبه بعد قليل. كانت تلك الفقرات المقتضبة كافية لإعادة الاطمئنان وأجواء الاستقرار، بالنظر إلى أن الحادث وقع صيفا والناس في عطلة، وإن كان صاحب مقهى شهير في الرباط سيلقى مصيرا قاسيا إثر سماعه نبأ المحاولة الانقلابية، حين وزع الحلوى على بعض الرواد احتفالا. من مفارقات التحقيقات التي أشرف عليها الدليمي شخصيا أنه سأل أحد الضباط عمن كتب البيان رقم واحد، وحين رد عليه بالقول إنه يجهل ذلك، وإنه لم يكن هناك أي بيان، انفجر غاضبا: من كتب تلك الفقرات التي جاء فيها:الجيش أقول الجيش قام بثورة؟ ولم ينته الاستنطاق الذي دام طويلا حول هذه المسألة، إلا بعد أن تأكد الدليمي أن الشخص الذي قرأه كان مدنيا وكان أعمى لا يبصر، إنه الملحن عبد السلام عامر الذي كان موجودا في أحد استوديوهات الإذاعة، بعد أن رفض العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ قراءة أي بيان، لأنه ضيف المغرب ومجرد فنان لا يتعاطى شؤون السياسة.