كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. أمسك العقيد محمد عبابو بسماعة الهاتف وأدار القرص نحو مركز المداومة في إدارة الدفاع الوطني، كان على الخط ضابط آخر، تبادل الرجلان التحية، ثم سأل عبابو: - ماذا تفعل يا صديقي؟ كان يريد أن يعرف إن كانت هناك بوادر شكوك حول تحركاته، وقد قطعت قافلة تلامذة اهرمومو مسافة في اتجاه العاصمة، فقد كانت تنتابه شكوك، سيعبر عنها لاحقا بشأن وقوعه تحت تأثير مناورة ما. كان جمع الضباط في المدرسة العسكرية في اهرمومو في الليلة السابقة، وتحدث إليهم عن المناورة التي سيقومون بها، وترك لشقيقه الأصغر زمام مبادرة الإشراف على باقي التفاصيل. حين أدرك عبابو أن مخاطبه على الطرف الآخر لا يعرف شيئا، أعاد السؤال عن برنامجه لذلك اليوم، فرد الضابط. - لاشيء إنهم في الرباط يحتفلون، ونحن هنا في مداومة! جذبه عبابو إلى الحديث، ثم ما لبث أن اقترح عليه حفلا آخر، وقال: - تعال إلى بوقنادل، سنقيم هناك مأدبة مشوي، ونحن في انتظارك! حين توجه ذلك الضابط، لم يجد مأدبة مشوي، وإنما خطة انقلابية مدبرة، رفض الإذعان لها، ثم فر هاربا في اتجاه غابة بوقنادل شمال العاصمة الرباط. مثله أيضا سيكتشف ضابط آخر حقيقة ما كان يدبر، ولأنه لم يتمكن من الإفصاح عن معارضته في اجتماع بوقنادل، فقد استغل الارتباك الحاصل في القافلة العسكرية لدى دخولها إلى الرباط، وأطلق العنان لساقيه هاربا، بعد أن نزل متخفيا من إحدى العربات. وستكون شهادة هذا الضابط ضمن وثائق المحكمة العسكرية التي أدانت المتورطين. غير أن ما تعنيه هذه الأحداث المتفرقة، هو أن الأمر كان يطبعه الارتجال والغموض، وإن كان عبابو رفقة شقيقه كانا وحدهما تقريبا في صورة ما يجري تنفيذه بعد التخطيط له، لذلك فقد حرص عبابو الأكبر على ألا يترك مجالا للضباط والجنود والتلاميذ وهم يقتحمون بوابة القصر الملكي في الصخيرات، بعد أن توزعوا إلى ثلاث فرق على الأقل لمحاصرة المكان من كل الاتجاهات. كان أول شيء فعله عبابو هو انتزاع رشاش أحد التلاميذ ثم إطلاق النار على أحد الحراس الواقفين أمام بوابة القصر، بعد أن منعه من الدخول. وعلى الرغم من أن حارسا آخر سدد له طلقة أصابت كتفه فإنه استمر في إصدار الأوامر، وسط فوضى عارمة، لم يكن فيها أحد من غير الرؤوس المدبرة يعرف حقيقة ما يجري بعد ظهر العاشر من يوليوز 1971، وربما أن العلامة الوحيدة التي كانت تجمع بين المتورطين الكبار هي ارتداء قمصان بلون واحد كي يتعرفوا على بعضهم، مع أنها طريقة ساذجة قد لا تحول دون ارتداء آخرين نفس اللون بمحض الصدفة. كان المشهد غريبا، وحين سمع الضيوف الذين كانوا موزعين في فناء القصر تحت الخيام المنصوبة أصوات طلقات النار، تخيلوا أن الأمر يتعلق بشهب اصطناعية، قبل إدراك أن الرصاص الحقيقي كان سيد الموقف، وفيما احتمى كل واحد بما اعتبره درعا واقيا تحت الأشجار والطاولات التي كانت تحفل بأنواع المأكولات، كان هناك رجل عنيد يسأل بإصرار: أين الملك؟ كان العقيد عبابو وقد أصدر الأوامر إلى الضباط والجنود والتلاميذ بإطلاق النار على كل ما يتحرك خارج السيطرة، يبحث عن رفيقه في المؤامرة الجنرال محمد المذبوح، الذي يعتقد أنه وضع آخر اللمسات على سيناريو المحاولة الذي كان يقضي بدفع الحسن الثاني إلى التنازل عن العرش في ذكرى عيد ميلاده، فيما كان عبابو الأداة المنفذة يبدو أكثر انفعالا. فقد حانت اللحظة التي انتظرها بفارغ الصبر، من أجل الانتقام من رؤسائه العسكريين. لذلك فقد عاند طويلا كي يرى بعضهم منبطحا على الأرض، والبعض الآخر رافعا الأيادي استسلاما، والبعض يتوددون شفقته التي كان رمى بها بعيدا. هناك في فناء القصر كان رجال سياسة وسفراء وفنانون وشخصيات مدعوة من كل الأطياف، لكن ما يثير الانتباه أن قساوة العسكريين المتمردين انصبت على نظرائهم وعلى رجالات سياسة كان من بينهم الزعيم محمد بلحسن الوزاني القائد التاريخي لحزب الشورى والاستقلال الذي ترك ذراعه نتيجة تطاير شظايا الرصاص.كذلك كان زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي الذي لم يسلم بدوره من العتب العنيف. على أن الفارق بين هذه المحاولة وتلك التي ستأتي بعدها في غشت من العام القادم، أن الأخيرة ستضع قائمة بأسماء المجلس الحاكم المقترح الذي يضم أسماء زعماء أحزاب في المعارضة. ما يعني أن الرحم الذي خرجت منه المحاولتان معا، يكاد يكون واحدا، وربما أفاد من التجربة الأولى في عدم تكرار الأخطاء، طمعا في حيازة دعم شعبي، لم يكن واردا بكل المقاييس. سيلتقي العقيد محمد عبابو والجنرال المذبوح في غضون حالة الفوضى المستشرية، إلى درجة لم يعد يعرف فيها من ينقلب على من. فبعض الذين كانوا يطلقون الرصاص ويردون ضحاياهم أرضا، كانوا يرددون: عاش الملك، والبعض الآخر ممن كانوا يتوقون إلى طوق النجاة، كانوا يرددون نفس الجملة، من دون استثناء أن التلاميذ العسكريين تواجهوا مع بعضهم وفتحوا النار على بعضهم في لحظات عصيبة على التحمل والفهم. حينذاك، وعند أول مواجهة بين الجنرال والعقيد سأل الأخير: أين الملك؟ أعاد السؤال إلى درجة أن بعض مرافقيه سمعوه يلح في طرحه. بين ما تردد من قول إنه في مكان آمن. وبين دعوة المذبوح العقيد عبابو لمرافقته، سينزل الستار عن الحلقة التي باتت مفقودة. لذلك فقد أمر عبابو بمعالجة الجنرال بطلقات من رشاش أنهى ما تبقى من التكهنات. سواء كان ذلك يعني عدم الثقة بين الرجلين، أو هيمنة الشكوك على طوايا كل واحد منهما، فإن سقوط المذبوح دفع شركاءه المحتملين إلى حافة الجدار، ولم يبق إلا منطق الثأر. وحين غادر عبابو قصر الصخيرات في طريقه إلى مركز القيادة العسكرية، كانت جروحه لازالت تنزف. فقد عهد إلى شقيقه محمد بضبط النظام. أوصاه بألا يترك أحدا يتحرك من مكانه، وغاب عنه أن رجلا اسمه مولاي أحمد العلوي سيتنبه لحالة الفوضى السائدة، وبنوع من الفضول سيسأل أحد العسكريين الذين كلفوا بالحراسة: - ماذا تفعل هل أنت مع الملك أو ضده! كان السؤال كافيا لإعادة الوعي إلى ذلك الضابط الذي سرعان ما أجاب الوزير بأنهم جاؤوا لحماية الملك من مكروه تعرض له. كانت الجملة كافية. وكان الحسن الثاني الذي انزوى بعيدا عن الأنظار يخطط لكيفية تجاوز ذلك المأزق. فجأة ظهر على متن عربة عسكرية، وهتف الجنود: عاش الملك. ثم بدأ هجوم مضاد لفرض السيطرة. ستدور داخل مركز القيادة معركة حامية بين جنود موالين وآخرين متمردين. وسيدفع الجنرال البوهالي ثمن إقدامه على إخراج المتمردين من مركز القيادة، فيما سيكون جنود تحصنوا في مبنى الإذاعة والتلفزة، قد بدؤوا يفقدون مواقعهم بعد محاصرتهم من طرف قوات موالية. على امتداد شارع النصر في الرباط دارت مواجهات، وفي بعض الأزقة المحاذية لمقر الإذاعة جرت معارك، انتهت إلى استسلام المتمردين، وكذا إلى اعتقال آخرين حاولوا الفرار أو اختفوا في أماكن داخل العاصمة. لينتهي فصل أكثر إثارة في أخطر محاولة سيخرج منها النظام سالما. مساء نفس اليوم كانت أجهزة إعلام مختلفة بثت تقاريرها عن إحباط المحاولة الانقلابية وكان الغائب الوحيد في تلك المتابعة الإعلامية هي الصحافة الوطنية التي كانت احتجبت عن الصدور. لكن صحيفة الأنباء الحكومية، خرجت في الليلة ذاتها، وهي تحمل مانشيتا يقول: عاش الملك. لسبب ما، سيختار الملك صفة «التحدي» عنوانا لأول كتاب صدر له يعرض فيه لتجربته في الحكم، والخيارات التي كان أقرها من أجل تكريس التعددية السياسية ومناهضة منظومة الحزب الوحيد. غير أن بعض المواقف ظلت غامضة، ومن ذلك أن الجنرال محمد المذبوح حين صارح الملك بقضية تورط فيها بعض الوزراء، لم يكن يفعل ذلك بدافع الاقتصاص منهم، وإنما برغبة في التدخل لإنهاء أي متابعة ضد أشخاص كانت تربطه وإياهم علاقات تجارية ومصالح مختلفة. لذلك سيكون مثيرا أن اعتقال أولائك الوزراء ومحاكمتهم بتهم تلقي رشاوى، بدأت مباشرة بعد حادث الصخيرات وليس قبله. لم يكن الجنرال المذبوح وحده قادرا على إدارة عملية من هذا النوع من دون أن يتوفر على غطاء، ولم يكن عبابو بحكم رتبته العسكرية قادرا على أن يجذب جنرالات كبارا إلى جانبه. ولكنها لحظة ضعف قد تكون اعترت كثيرين، بين من أراد النجاة بجلده وبين من سعى إلى ركوب القطار، اعتقادا منه أنه انطلق فعلا. وبين من كان يتحين الفرصة، لكن الحادث سيؤشر إلى نهاية نفوذ عسكريين من طراز آخر ولعل في صيحاتهم وهم يواجهون رصاصات الرحمة في ساحة الرماية في تمارة، عاش الملك، عاش الملك، ما كان يخفي غابة كثيفة من الملابسات ستطالها الحرائق بعد عام وبضعة أيام.