عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. جاء المساء وحان موعد اللقاء الحزبي. رششت على عنقي ما تبقى من «الرّيحة» من تلك العلبة التي اشتريتها بعشرين درهما قبل ثلاث سنوات، أيام كنت أتواعد مع عويشة القميلة، وتلك حكاية أخرى سأعود إليها لاحقا. وضعت حول عنقي ربطة العنق المعتادة، التي أصبحت مثل حبل لجر شباك الصيد، وبدأت في ارتداء تلك البذلة العزيزة التي أصبحت شاحبة مثل زربية إيرانية يمر فوقها الناس والسيارات في سوق شعبي. أمي تقول لي باستمرار إنني يجب أن أغير ربطة عنقي، يعني أن أشتري واحدة جديدة. هي ليست غالية على أية حال، وبعشرة دراهم فقط يمكن الحصول على دزّينة من ربطات العنق. لكن المشكلة ليست في الثمن. أنا أتفاءل بهذه الربطة الزغبّية ولن أغيرها حتى أموت. صحيح أني لم أعثر على عمل بعد، وجيوبي فارغة باستمرار، لكني أتوقع أن تكون ربطة العنق هاته مصدر سعادتي في يوم من الأيام. لا أعرف بالضبط كيف سيكون ذلك، لكن من الأكيد أني سأصبح رجلا مهما وسعيدا في المستقبل. البذلة ليست مشكلة. صحيح أن لونها الأزرق بدأ يتحول إلى الأخضر بفعل بقائها طويلا تحت الشمس في سطح المنزل، والسروال أصبح قصيرا وأصبحت أزيد فيه باستمرار من التفافه الداخلي أو أرتديه على شكل الطاي باس حتى يبدو طويلا، والأزرار غيرتها أكثر من عشر مرات، إلا أن البذلة تبدو محترمة ولا يمكن الانتقاص من شأنها إطلاقا. ثم إنني شخص لا أحب المظاهر، وأعرف أن مكنون الإنسان وثقافته أهم بكثير من مظاهره. كل الوزراء والشخصيات الهامة يرتدون بذلات أنيقة وربطات عنق بآلاف الدراهم، لكن عقولهم فارغة. أما أنا فإنسان مختلف تماما. غادرت المنزه بهدوء لأن الوالدة عادة ما تكون مركزة على شاشة التلفزيون في انتظار المسلسل التركي الذي يظهر فيه رجال بشوارب غليظة. كانت الوالدة تكره أصحاب الشوارب وتقول إنهم رجال مزورون. لكنها أحبت مسلسل نور وقالت إن الممثلين فيه أفضل من الممثلين في المسلسلات المكسيكية، والأسباب عندها مثيرة، من بينها أنهم مسلمون ولا يقبّلون بعضهم البعض كثيرا ولا يرددون باستمرار عبارة: أوووه.. يا إلهي.. دائما كانت والدتي تعنف من شاهد المسلسلات المكسيكية وتقول لهم إن الممثلين عاهرات وشواذ. أوووه يا إلهي كم تكره والدتي العاهرات والشواذ. تقول دائما إنهم سبب مصائب البلاد.