ما بين الموقف الصريح، الذي تلتزم به فرنسا في دعم خيار الحكم الذاتي لإنهاء مشكل الصحراء، وبين الموقف الفضفاض للجارة في شبه الجزيرة الإيبيرية، تكمن مفارقة لافتة، ذلك أن الخلفية التاريخية تشير إلى أن فرنساوإسبانيا هما الأكثر دراية بتشعبات القضية منذ فترات تمدد الاستعمار الغربي في منطقة الشمال الإفريقي. وليست هناك دولة مؤهلة لأن تقدم شهادة إنصاف في الموضوع أكثر مما تستطيعه باريس ومدريد. من منطلق هذه الاعتبارات، يمكن ملاحظة أن أكثر الشخصيات الدولية، التي تعاطت مع الملف في إطار انتدابها من طرف الأممالمتحدة، حرصت على محاورة العاصمتين الفرنسية والإسبانية لاستطلاع وجهات نظرهما، فقد فعل ذلك الموفد الدولي السابق، بيتر فان فالسوم، الذي خلص إلى أن استقلال الأقاليم الصحراوية خيار غير واقعي، أي غير قابل للتنفيذ. وقبله، اهتدى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر، إلى إسناد رعاية التسوية السلمية في إطار الأممالمتحدة إلى كل من باريس وواشنطن، في الطبعة الأولى لاقتراحه أجندة الحل الثالث، قبل حدوث انحراف في الرؤية، إذ كان مهتما بإشراك الأوربيين والأمريكيين في رعاية المشروع، لولا أنه أنهى حياده بالانحياز إلى طروحات غير موضوعية. الفرق بين المنظورين، الفرنسي والإسباني، أن باريس عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، أي أن موقفها يعكس التوجهات العامة للمجتمع الدولي، فيما مدريد ترغب في الدخول على الخط، للقيام بدور ما، فقد تحدث رئيس الوزراء الإسباني خوسي لويس ثباطيرو، أكثر من مرة، عن الحل الكبير الذي كان يتوق إليه، من خلال جمع المغرب والجزائر، إلى جانب فرنساوإسبانيا، لدراسة كافة الإشكاليات المحيطة بحظوظ التسوية، في إطار حل سياسي، وذهب وزير خارجيته أنخيل ميخيل موراتينوس إلى الكلام عن مبادرة إسبانية وفرنسية وأمريكية مشتركة، غير أن الإطار الملائم للحل يكمن في تفعيل وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، لكونها حسمت في تناقض الاقتراحات وأقرت بأن اقتراح المغرب يتسم بالواقعية والجدية والمصداقية، مما لا يترك مجالا للتأويل. وما دامت إسبانيا معنية بالقيام بشيء ما، فالثابت أنها لم تقدم، بما فيه الكفاية، أدلة قاطعة على أنها تدعم جهود الأممالمتحدة، لأن أبسط ما يتطلبه الموقف أن تبلغ أصدقاءها أنها لا ترى حلا آخر غير الحكم الذاتي، وهي لا شك أقرب إلى مخاطبة الجزائريين في هذا الشأن، إذ ثمة وقائع تؤكد أنها حاورتهم قبل فترة قصيرة من انسحابها من الإقليم، وأن لغة الاقتصاد والمال وإبرام صفقات هي التي سادت ذلك الحوار الذي كان من بين أسباب عديدة وراء قيام جبهة البوليساريو، بتشجيع مشترك بين الجزائروإسبانيا. إن الإحاطة بهذه الوقائع تضع على عاتق الجارة إسبانيا أعباء كبرى، لا سبيل للتخلص منها إلا بالإقرار بالحقائق التي تغيب أمام المزايدات. وإذا كان صحيحا أن اعتبارات داخلية صرفة تحول في الكثير من الأحيان دون الجهر بالحقائق، طالما أن قضية الصحراء أصبحت ورقة في الصراعات الداخلية في إسبانيا، فالصحيح أيضا أن الاستسلام لهذا المنظور، الذي يرجح المصالح الإسبانية فقط، لا يساعد في إنصاف بلد جار، هو المغرب الذي يرتبط مع إسبانيا بمزيد من أوفاق الحوار والتعاون والشراكة غير المتناهية. لا شيء بوسعه اليوم أن يحول دون استمرار الصداقة المغربية الإسبانية، إلا أن هذه الأوفاق لا يمكن أن تكون على حساب المغرب، من وجهة نظر وطنية صرفة، كما أنه من غير المقبول أن تكون على حساب إسبانيا من وجهة نظر احترام مصالحها، والرابط الموضوعي بين المصالح المشتركة هو السعي إلى إنهاء المشاكل العالقة التي تعيق بناء المنطقة برمتها. وبالقدر الذي يكون من حق حكومة مدريد والشعب الإسباني أن يرفضا اللعب على الحبال في قضية الباسك والوحدة الترابية والوطنية، فإن الموقف ذاته ينسحب على المغرب. إسبانيا ليست هي فرنسا، ولكن المغرب هو المغرب. وإذا كان على مدريد أن تجاري الموقف الفرنسي من قضية الصحراء في كل أبعاده، فإن الارتباطات التي تجمع البلدين، في إطار الاتحاد الأوربي، تحتم النزوع إلى وحدة المواقف. ولا تجهل مدريد أنه إذا كان هناك بلد ساعدها في إيجاد موطئ قدم في منطقة الشمال الإفريقي، فهو المغرب. تماما كما أن المغرب لا يمكنه التنكر لمواقف مدريد في دعم انفتاح الشريك الأوربي عليه، إلا أن هذا التوجه الذي يعتبر بمثابة خيار استراتيجي توافق حوله، الأوربيون والمغاربة، يحتم تصفية الملفات العالقة التي من شأنها أن تدفع المغرب إلى المضي قدما في مسار ذلك الانفتاح دون معوقات. لقد أبانت إسبانيا في السنوات الأخيرة أن بإمكانها، نتيجة موقعها الجغرافي وارتباطاتها السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية مع المغرب، أنها شريك محوري في مشروع التأهيل الشامل للمنطقة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، ولن يثنيها عن ذلك شاغل آخر، إن هي وضعت في الاعتبار أن استقرار المنطقة هو العملة الوحيدة القابلة للصرف في هذا الفضاء الإقليمي وامتداداته الإفريقية وتطلعات الأوربيين نحوه. بديهي أن الاستقرار الذي يشجع المبادلات ويضمن المناخ الملائم لتنقل الاستثمارات وإنجاز المشاريع، لا يمكنه أن يتحقق دون إنهاء المشاكل المفتعلة، وتستطيع إسبانيا، أكثر من غيرها، أن تضطلع بمسؤوليات كبيرة في هذا النطاق، ليس أقلها الاصطفاف إلى جانب فرنسا التي جمعتها وإياها مرحلة المد الاستعماري الذي ابتليت به المنطقة، والخروج عن الصمت، ولعل ذلك ما يمكن أن يضفي على مفهوم الحل الكبير الذي لوح به رئيس الوزراء الاسباني، ثباطيرو، صفة العقلانية والواقعية التي تجعل كل الشركاء يمتطون مركبا واحدا اسمه مركب المستقبل.