الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. قبل أن يقدم المنصور على غزو السودان وتحويل خيراته المعدنية إلى قاعدة اقتصادية مهمة جعلته في صدارة الوسطاء بين إفريقيا وبين التجارة الأوربية، كانت هناك علاقة قائمة بينه وبين سلطان مملكة برنو، إذ تشير المصادر التاريخية، ومن ذلك «الاستقصا»، إلى وصول رسول مملكة برنو جالبا معه هدية جرت عادتهم أن تكون من فتيان العبيد، فأدى هذا الرسول الرسالة وفرض التهنئة بين يدي المنصور، وأعرب عن مقاصد مرسله واعترف للمملكة المغربية بحقها، وأظهر من الخضوع والتملق والاستكانة والخدمة والطواعية. وقد كانت من أعراض الرسالة طلب صاحب مملكة برنو المدد من أمير المؤمنين بالعساكر والأجناد وعدة البنادق ومدافع النار لمجاهدة من يليهم بقاصية السودان من الكفار. وقد ورد رسول سلطان برنو ثانية على المنصور الذي طالبهم بالبيعة والدخول في دعوته النبوية التي أوجب الله عليهم وعلى جميع العباد في أقطار البلاد، وألزمهم القيام في أقطارهم بدعوته، ومجاهدة أعدائهم بهذا الشرط، فالتزم الرسول بذلك وطلب من المنصور نسخة مكتوبة من البيعة كي يتوجه بها إلى قطره، وهي البيعة التي حررها كاتب دورة المنصور، أبو فارس عبد العزيز الفشتالي، وختمها بتاريخ المحرم من عام 990ه (للمزيد من الاطلاع راجع النص الكامل للبيعة بالجزء الخامس من كتاب «الاستقصا» ص 106). وبعد أن استقامت الأمور للمنصور، استمر في نهجه التوسعي، كاتب سلطان مملكة كاغو إسحاق بن داود آل سكية بخصوص إلزامه فرض الخراج على معدن الملح الذي بتغازي بين المغرب والسودان، وحدد المنصور ذلك الخراج في مثقال من الذهب العين لكل حمل، وأخبر صاحب كاغو بأن ذلك لإعانة عساكر المسلمين على جهاد الكفار. وقد أرفق المنصور رسالته التي حررها مفتي الحضرة المراكشية أبي مالك بن أحمد الشريف السجلماسي، بفتوى علماء إيالته وأشياخها بأن النظر في المعادن إنما هو مطلق للإمام لا لغيره، وأنه ليس لأحد أن يتصرف في ذلك إلا بإذن السلطان أو نائبه. ولما بلغت رسالة المنصور إلى السلطان إسحاق سكية، يقول الناصري، واطلع عليها، شق عليه ذلك وماطل في الجواب، وحين أبطأ الرسول فطن المنصور إلى ما انطوى عليه سكية من عدم إجابته لما طلب، فاشتد غضبه وعزم على توجيه العساكر إلى السودان. يقول الفشتالي كاتب دولة المنصور ونقله الناصري: «لما رجعت إرسال المنصور إليه من عند إسحاق سكية وأعلموه بمقالته وامتناعه واحتجاجه بأنه أمير ناحية، والمنصور أمير ناحية، وأنه لا تجب طاعته عليه، شاور المنصور أصحابه وجمع أعيان دولته والتقي أهل الرأي والمشورة فاجتمعوا، وكان يوم اجتماعهم يوما مشهودا، فقال لهم المنصور: «إني عزمت على منازلة أمير السودان صاحب كاغو وبعث الجيوش إليهم لتجتمع كلمة المسلمين وتتحد الرعية، ولأن بلاد السودان وافرة الخراج كثيرة المال يتقوى بها جيش الإسلام ويشتد ساعد كتيبته، مع أن صاحب أمرهم والمتولي لسلطنتهم اليوم معزول عن الإمارة شرعا، إذ ليس بقرشي ولا اجتمعت شروط السلطنة فيه». وبعد مناقشة دارت بينهم وبين المنصور، احترس الجمع في أول الأمر في تأييد رأي المنصور وذكروه بوعورة الأرض وبأن المرابطين والموحدين والمرينيين على قوتهم لم يطمحوا إلى ضم بلاد السودان، أو تعرضوا لها، وكانت حجة المنصور هي استشهاده بقدرة التجار على الخوض في تلك الصحارى وقال: «أنا أقوى أهبة منهم وللجيش همة ليست للقوافل... واعلموا أن المرابطين صرفوا عنايتهم لغزو الأندلس والموحدون اقتضوا سبيلهم في ذلك، والمرينيون كانت غالب وقائعهم مع بني عبد الواد بتلمسان، ونحن اليوم نسد علينا باب الأندلس باستيلاء العدو الكافر عليها، وانقطعنا عن حروب تلمسان باستيلاء الترك عليها». وهكذا، بعدما فرغ المنصور من كلامه واجتمعت كلمة الفقهاء على كلمته، عقد العزم على غزو بلاد السودان، واستقر رأيه في سنة 997ه حيث جهز آلته الحربية في ثلاث سنين، فكان مجموع الخيل والفرسان عشرين ألفا، بالإضافة إلى ألفي طبجية، وكان جيش المنصور الذي فتح السودان يتكون في غالبيته من الجالية الأندلسية التي دخلت المغرب بعد سقوط غرناطة، وعهد رئاسته إلى الباشا جودر وهو أيضا أندلسي من أصول مسيحية. وكتب المنصور تهيئا لذلك إلى قاضي تنبكتو الفقيه أبي حفص عمر بن الشيخ محمود بن عمراء قيت الصنهاجي يأمره بحض الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، وكان ذلك في فاتح محرم سنة 999ه. بعد دخول جيوش المنصور تنبكتو، توجهوا قاصدين دار إسحاق سكية الذي جمع 104 آلاف مقاتل، وقد وصف الناصري هذه المعركة وصفا دقيقا جاء فيه: «ولما تقارب الجمعان عبأ الباشا جوذر عساكره وتقدم للحرب، فدارت بهم عساكر السودان من كل جهة... وكان سلاحهم إنما هو الحرشان الصغار والرماح والسيوف ولم تكن عندهم هذه المدافع... ولما كان آخر النهار هبت ريح النصر وانهزم السودان فولوا الأدبار... وحكمت في رقابهم سيوف جوذر وجنده، حتى كان السودان ينادون نحن مسلمون نحن إخوانكم في الدين... وجند جوذر يقتلون ويسلبون في كل وجه... وتحصن إسحاق سكية بكاغو فحاصره جوذر وكتب إلى المنصور بخبر الفتح وبعث إليه هدية فيها عشرة آلاف مثقال ذهبا ومائتان من خيار الرقيق». وتشير المصادر التاريخية في هذا الصدد إلى أن الباشا جوذر عقد صلحا مع إسحاق سكية يقضي بدفع هذا الأخير ضريبة سنوية، وهو الصلح الذي تم إبلاغه للمنصور كتابة من قبل الباشا جوذر، وما كان من المنصور إلا أن انتفض وبعث بجيش جديد على رأسه الباشا محمود شقيق جوذر الذي دخل تنبكتو ووصل إلى كاغو فهزم السودان وسار في اتباع إسحاق حتى لحق به، فأوقع بمن معه من الحريم والمال، وفر على إثرها إسحاق نحو الصحراء وهناك لقي حتفه. ويصف الناصري هذا الفتح أنه كان يوم عيد أخرجت فيه الصدقات وأعتقت الرقاب، وخرج الناس بمراكش للفرجة والنزهة وزينت الأسواق وأخرجت المدافع، وأطعم المنصور الناس عدة أيام ونظم الشعراء قصائدهم، وقد كان أول ما بعثه الباشا محمود إلى المنصور رفقة نصف جيشه أن هاداه بألف ومائتين من متخير الرقيق والجواري والغلمان، وأربعة سروج من الذهب، وأربعين حملا من التبر... وغير ذلك كثير. أجل لقد كانت غزوة السودان متنفسا سياسيا واستراتيجيا لمصير دولة المنصور الذهبي، وبالفعل لقد عاش المغرب بعد حرب الملوك الثلاثة حصارا سياسيا هدد استمرار الدولة، فمن جهة الشرق هناك الأتراك، وفي الشمال القوى الأوربية، وبالجنوب توسعات برتغالية على الساحل السوداني قبل تملكهم بوابات المغرب الأطلسية. كذلك ألبس المنصور غزوة السودان لباسا دينيا باعتبارها توسعا ونشرا لراية الإسلام، وفي الآن نفسه حول خيرات السودان إلى عملة أساسية في توازنات المغرب الخارجية، وكانت ركائز ذلك الذهب والملح عبر تجارة القوافل التي معها تدفقت على المغرب الطلعات البشرية الأولى للسودانيين الذين وظف عدد كبير منهم في معامل السكر بحاحا وتارودانت، وهي الصناعة التي بدأها والد المنصور السلطان محمد الشيخ، واستمر في المراهنة عليها حتى توظيفها سياسيا في ما سمي بدبلوماسية السكر المغربي. ولنا أن نتصور حجم الأعداد البشرية التي جلبت إلى المغرب واستقرت في أول الأمر بمراكش وبالمراسي الأطلسية وبالجنوب بمحيط ومشارف معامل السكر. وتشير المصادر التاريخية المتوفرة عن عدة أحداث ارتبطت بالنزوح القسري للسود، ومن ذلك حكاية الفقيه أبي العباس أحمد بابا السوداني الذي اقتيد مصفدا في الحديد مع عشيرته من تنكبتو إلى مراكش وبقي بها حتى أطلق المنصور سراحه بعد عامين. يقول الناصري: «... وبهذا تظهر لك شناعة ما عمت به البلوى ببلاد المغرب... وجلب القطائع الكثيرة منهم في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية، يسمسرون بها كما تسمسر الدواب بل أفحش، قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم، حتى صار كثير من العامة يفهمون أن موجب الاسترقاق شرعا هو اسوداد اللون وكونه مجلوبا من تلك الناحية...». بهذا يكون المغرب قد عرف دخول عنصر بشري جديد تزامنت أحداث دخوله بكثير من المآسي والأحزان، فكانوا أقرب في وضعهم الاجتماعي بأسرى حرب، إلى درجة أن فرسا هرما من عبدة كان يقايض ويبادل في غينيا بخمسة وعشرين أو ثلاثين عبدا خلال القرن السادس عشر.