يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ زحف آل سعود على أرض الحجاز لم يكن يحمل تطلعات اقتصادية بالحجم الذي نراه اليوم، وكان صراعا قبليا تقليديا يبغي السيطرة على المواقع الاستراتيجية والتاريخية، ولم يبدأ تحول المنطقة من دولة قحط إلى دولة نفط إلا مع نهاية عقد الثلاثينيات، باكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية عام 1938، والبدء في استغلاله بواسطة الشركة الأمريكية «رامكو» بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. مباشرة بعد تفرغ المنتصر الأكبر في تلك الحرب لإدارة الحرب الباردة، استقبل الرئيس الأمريكي روزفلت الملك عبد العزيز بن عبد الرحمان آل سعود على متن إحدى السفن الحربية في البحر الأحمر، وكان اللقاء بداية علاقة يصفها الصحفي والكاتب جوناثن راندل بالغريبة لكنها علاقة ستدوم طويلا، أساسها اتفاق غير مكتوب، تزود بمقتضاه العربية السعودية الولاياتالمتحدة بحاجتها النفطية، مقابل حماية عسكرية أمريكية لعرش آل سعود. لكن أسعار النفط حينها لم تكن بعشرات الدولارات، بل كان السائل الأسود منتوجا عاديا لا تكفي مداخيله لملء الخزائن السعودية، وكانت هذه الأخيرة تنتظر موعد الحج السنوي كمورد «مهم» من الرسوم والأرباح. لكن كل شيء سينقلب بعد حرب 1973، عندما أدت الأزمة السياسية إلى تضاعف أسعار النفط أكثر من ثلاث مرات، واستحالت بحيرة السائل الأسود، التي تطفو فوقها المملكة، بحيرة من ذهب أسود. وباتت السعودية وجهة المستثمرين ورجال الأعمال الغربيين، يتزاحمون في فنادقها الراقية والرخيصة، والمهم بلوغ هدف الظفر بإحدى صفقات التجهيز التقني أو التكنولوجي أو اقتناء المعدات المصنعة في الدول الغربية، فلا بد من تصريف مخزونات البترودولار. المملكة العربية الوهابية لم تكن لتنجو من ضريبة البذخ المبكر، ف«بالنسبة إلى القلة المختارة من المرفهين السعداء، كانت حفلات آخر الأسبوع تقام على شاطئ البحر الأحمر قرب جدة، وغالبا ما كان المضيف أحد الأمراء التجار أو من أبناء آل سعود الشباب العائدين لتوهم من الجامعات الغربية، وكان الحضور خليطا من الدبلوماسيين ورجال الأعمال الغربيين ومضيفات شركات الطيران وسكرتيرات السفارات والممرضات وأخريات من النساء الغربيات اللواتي كن يأتين بمفردهن. كانت الكحول «المهربة» وحتى المخدرات تضيف نكهة من العيش على ضفاف الخطر، ومن وقت إلى آخر كان لابد من ترحيل أحد الغربيين على وجه السرعة وسط همسات خافتة حول سوء تصرفه...»، يقول مؤلف كتاب «أسامة» الذي زار المملكة حينها مرارا. ما يستفاد من هذا، أن ما سنأتي على تفصيله من أوضاع سياسية أواخر القرن العشرين، أثارت غضب بعض ممن يوصفون بأتباع أسامة بن لادن، من وجود عسكري أمريكي وتحالف هجين... كل ذلك بدأ في وقت مبكر وبحدة متذبذبة، وليس تطورا لعلاقات غامضة لا تكف إبرة ميزانها عن الإشارة إلى طرف في الصباح ثم إلى آخر في المساء. أحد السفراء الأمريكيين الأوائل في المملكة وصف العربية السعودية بحشرة اليعسوب، موضحا أن القاسم المشترك بينهما عدم توفر البنية الجسمية على مقومات الطيران، لكن كلا من اليعسوب والمملكة يطيران رغم ذلك، في تلميح إلى استمرار رباط غريب بين النفط السعودي والغطاء العسكري الأمريكي حماية لنظام إسلامي ثيوقراطي حديث. لكن طاقة الإقلاع هذه لم تكن بفضل هذا التحالف النفطي-العسكري فقط، بل إن المملكة استفادت أيضا من جحافل الوافدين على ترابها، من عمالة أجنبية تسللت مبكرا إلى دولة ستتحول إلى ورش فسيح على مدى القرن الماضي، مما فسح المجال لتزايد أعداد المواطنين «الجدد»، بل إن عددهم فاق ما كان موجودا من سكان «أصليين». والمصدر الأول لهؤلاء الوافدين الجدد، الجار الشرقي الجنوبي الفقير، اليمن المنقسم بين نفوذ البريطانيين وصراع العروبيين والشيوعيين. ومن أبرز مناطق انطلاق هؤلاء الحاملين لسواعد العمل نحو مملكة النفط، منطقة حضرموت، المحافظة الوسطى لليمن السعيد. في ظل ما كانت تشهده المملكة، من تحالف محلي بين الأسرة الحاكمة والمذهب، ودولي بين الرياض وواشنطن، وتهافت المستثمرين والانتهازيين الغربيين على فرص الربح، وانغماس البعض في حياة الترف والترفيه واللهو، كان هناك على مستوى السياسة الداخلية مما يمكن اعتباره حكومة مركزية بالرياض، قوامها بعض المستشارين الموزعين بين أصول عراقية وسورية ولبنانية وفلسطينية وبريطانية، إضافة إلى بعض مساعدي الملك. وكان في ما يشبه الديمقراطية اليونانية على الطريقة البدوية، مجلس مفتوح أمام العامة للمثول بين يدي الملك وتقديم الشكوى. وبالنظر إلى ضعف الكثافة السكانية، كان المجال شبه مفتوح، فلم يستغرب أحد مواظبة ذلك الوافد من حضرموت، والمدعو محمد بن لادن، على حضور تلك المجالس، متخذا في كل مرة مكانا أقرب ما يكون من الملك. لم يكن محمد بن لادن يواظب على تلك المجالس لتقديم شكواه، ولا لطلب التفات المملكة إلى حال جيرانها الشرقيين ومساعدتهم ببعض الاستثمارات... بل إن الحس التجاري اليمني الحضرمي كان يسكن الرجل، والاقتراب من منابع الصفقات والمشاريع الكبرى مكنه في ظرف وجيز من اكتساب شهرة واسم رنان، بعد تمكنه من إنشاء عدد من القصور لصالح أفراد العائلة الملكية، مواصلا بذلك ممارسة مهنته/موهبته الأولى في صنع الآجر وبنائه. وكما هي عادة الملوك، فإن الذين يحظون بالمكانة الرفيعة هم من يتميزون بالفكر النافذ والبديهة السريعة والقدرة على الإبداع وإمتاع الحاكم. وهكذا تروي بعض القصص القريبة من وحي الأساطير، أن محمد بن لادن تمكن من تصميم بناء يتيح للملك الصعود بسيارته إلى الطابق الأول، للترجل منها مباشرة إلى غرفة نومه، فكانت ضربة حظ ناجحة.