برزت تركيا في السنوات الأخيرة كقوة إقليمية أثارت انتباه العالم وحيرت أكثر من جهة دولية. الصعود القوي لهذا البلد، إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وراءه عدة عوامل، أهمها السياسة الخارجية الجديدة التي تميزت بالانفتاح على أكثر من محور ومراعاة أكثر من مصلحة. الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية زاد من كشف طبيعة السياسة التركية الخارجية وعلاقتها بإسرائيل. «لوموند» نشرت مقالات وتحليلات في الموضوع اخترنا منها الأهم. إذا كان من سؤال يضايق الأتراك هذه الأيام فهو الذي بات يُطرح في الخارج من جديد على إثر الأزمات التي طالت إسرائيل وإيران والتي وضعت أنقرة في مواجهة حلفائها التقليديين: هل تتخلى تركيا، العمود الأساس، في حلف الأطلسي، عن واشنطن وبروكسيل وتنحاز إلى دمشق وطهران؟ هل تولي وجهها شطر الإسلاموية؟ إلا أن الحكام الأتراك، القادمين من حزب إسلامي، يحتجون على افتراض كهذا. فبعد أن تحولوا إلى «القيم العالمية» وباتوا فخورين بنجاحاتهم في الانتخابات سنة 2002، ينفون أن يكونوا غيروا طبيعة السياسة الخارجية التركية، مذكرين بأنهم، خلافا لأسلافهم الكماليين (نسبة إلى كمال أتاتورك)، عرفوا كيف يسرعون الإصلاحات في اتجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ويكررون، أمام المسؤولين الأوربيين على الأقل، أن هذا الانضمام «يبقى أولويتهم الأولى» رغم أنه كاد يدخل مرحلة «الغيبوبة». المحلل التركي المعروف محمد علي بيران يؤكد أن حكام تركيا «يعرفون جيدا أنه لا فائدة من الانحياز إلى الشرق على حساب الغرب، لأن العرب وبقية المسلمين ربما تطلعوا إلى أن تبقى تركيا بعيدة عن الاتحاد الأوربي وأن تظل تصرخ كما اعتادت وأن يكون لها اقتصاد ضعيف وتكون تحت رقابة الإسلام المتشدد». رغم ذلك، يبقى الوزير الأول رجب طيب أردوغان ميالا إلى الخطابات القوية وشجاعا في الهجوم على معارضيه، كما وصف البعض منهم بأنهم «عملاء دعاية مقصودة» قادمة من تل أبيب. وذلك لأن إسرائيل، بعد أن أدينت بشكل واسع على إثر الهجوم الدموي، يوم 31 ماي، على سفينة «مافيمارمارا»، التركية بينما كانت في طريقها نحو غزة، عادت لتستفيد من هجوم إعلامي مضاد اتهم نظام أنقرة ب«الانحياز إلى إرهابيي حماس». دعم الحكومة التركية لمنظمة IHH غير الحكومية التي شاركت مع أخريات في تنظيم الرحلة إلى غزة يغلفه بعض الشك، إلا أن أردوغان لا يخفي أنه يتمنى جر حماس إلى اللعبة السياسية، مذكرا بأن ياسر عرفات وُصف، هو الآخر، ب«الإرهابي» قبل أن يُمنح جائزة نوبل للسلام. عشرة أيام بعد حادثة سفينة المساعدات الإنسانية إلى غزة، عاد رفض تركيا لعقوبات جديدة على إيران ليزيد من شكوك الغرب وتخوفاته من فقدان حليف استراتيجي مهم في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى. أردوغان يعتبر أن الذين يبدون قلقهم تجاه الموضوع هم الذين «لا يقدرون على إدراك الدور الجديد لتركيا وسياستها الخارجية متعددة الاتجاهات». لأنه إذا لم يكن تغيير على مستوى المحور، فهنالك دبلوماسية تركية جديدة تتميز بكونها لا تحمل أي مركب نقص، ونيو-غير منحازة. هي سياسة ظهرت نتيجة لسقوط جدار برلين، الذي كان يفصل كذلك تركيا عن جيرانها والدمقرطة عن اقتصاد السوق اللتان صارتا تجتاحان البلاد على حساب الوصاية العسكرية. ففي سنة 2003، رفض البرلمان التركي مرور الجيوش الأمريكية نحو العراق من الأراضي التركية متسببا بذلك في أزمة عميقة مع الولاياتالمتحدة بينما لم يكن لحزب العدالة والتنمية، القادم حديثا إلى السلطة، أي دخل في ذلك. لكنه عرف كيف يتخطى الأزمة وها هو يحاول أن يقوم بالشيء نفسه مع واشنطن في الأزمة الحالية، لكن دون أي تراجع على مستوى الخيارات الكبرى التي يحدد بعض خطوطها العامة وزير الخارجية النشيط، أحمد دافوتوغلو، في تطوير منطقة «استقرار وتعاون مع جميع الجيران»، بما في ذلك سوريا وإيران، طبعا. غير أنه يؤكد أنه قام بذلك بتشجيع من واشنطن. الرئيس عبد الله غول، من جهته، أقر بصواب التحفظات الغربية تجاه الاتفاق الإيراني- البرازيلي التركي عندما صرح لصحيفة «لوموند» بأن الاتفاق «لا يشكل حلا نهائيا للمشكل، بل خطوة لإقامة جو الثقة» والحفاظ على خط المفاوضات، لكن ليس من باب التعاطف مع إيران «الغريم التاريخي للأتراك»، كما يقول الخبير علي كازنسيجيل، بل من باب مراعاة المصالح الحيوية. فتركيا ستكون في الخط الأول في حال الحرب ضد إيران ومحرومة، في الوقت نفسه، من ثاني مزود لها بالغاز بعد روسيا. التقارب بين تركيا والعدو التاريخي الآخر، المتمثل في روسيا، تمليه، أيضا، التبعية الكبيرة للغاز الروسي. المحلل السياسي سولي أوزيل، من جامعة بيلغي، يرى أنه «حتى وإن اعتبرنا أن هنالك خلفية إيديولوجية للسياسة الحالية لتركيا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن انخراطها المتزايد في القضايا الإقليمية تفرضه قبل كل شيء مصالحها، وهو ما ينبغي فهمه على هذا النحو». ولا أدل على ذلك من العدد الكبير من رجال الأعمال الذين يرافقون وزير الخارجية في تنقلاته الرسمية. فقد سافر الوزير إلى حوالي مائة بلد في ظرف سنة واحدة، وقادته أسفاره إلى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، علما بأنها كلها مناطق جديدة لم يسبق للأتراك، باستثناء زعماء حركة فتح الله غولن، أن تعاملوا معها من قبل. غولن هذا، المسلم المعتدل صديق الولاياتالمتحدة حيث يقيم، فاجأ الأتراك عندما انتقد العملية التي قامت بها منظمة IHH. وأسهمت تحفظاته، باعتباره شخصية مؤثرة في تركيا، في التخفيف من حدة ردود فعل الشارع التركي، مركزا في الوقت نفسه على التجادبات التي توجد على مستوى الحكومة. بالموازاة مع ذلك، بدأت تركيا تشهد، في الفترة القصيرة الأخيرة، نوعا من القلق تجاه مخاطر الانحرافات الخطيرة التي يمكن أن تنشأ جراء التصريحات التي تصدر عن أردوغان والقول إن القضية التركية أهم بالنسبة إليه من غزة. إلى أين تسير تركيا، إذن؟ الأمر رهين بالانتخابات القادمة سنة 2011 إن لم يتم تقديمها لتجرى خلال الخريف القادم. فالوزير الأول، الذي يوجد لأول مرة في وضع مهدد، قد يلجأ إلى المزايدة. لكن حكومة جديدة محتملة ستكون لا محالة أكثر وطنية، إن لم تكن إسلامية، وهو ما يشكل في نظر أفضل الملاحظين خطرا أكبر. حول السؤال نفسه، يقول دبلوماسي غربي: «لقد حان الوقت للكف عن التساؤل حول إلى أين تسير تركيا والانخراط معها، لأن الزمن الذي كان يمكن أن نجهل فيه الفاعلين البارزين قد ولى». نيكولا بورسيي