الذين يحبون السينما ويسمعون اسم صقلية، يتذكرون على الفور فيلم «العراب»، الذي لعب بطولته الممثل الفذ مارلون براندو، الذي مثل دور الإيطالي فيتو كورليوني، الذي هاجر من صقلية إلى نيويورك بداية القرن العشرين وهو طفل، وهناك كافح وحفر نجاحه بأظافره، فأصبحت عائلته أكبر بكثير من العائلات المعتادة، أي أنه أصبح زعيم عائلة المافيا. هذا الفيلم، الذي يعتبر أفضل الأفلام التي أرخت لعالم المافيا الإيطالية في أمريكا، هو أيضا فيلم للتأريخ لجزء كبير من تاريخ وواقع صقلية، هذه الجزيرة الموجودة عند أصابع قدم شبه الجزيرة الإيطالية، لكنها تبدو كما لو أنها كوكب بعيد. صقلية كانت دائما مختلفة، وهذا الاختلاف هو الذي صنع رواجها السياحي والأدبي والاقتصادي. إنها منطقة ليست كغيرها من مناطق إيطاليا، ولعل أهم معالم الاختلاف هي أن سكانها هاجروا بشكل كبير نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإلى هناك نقلوا عاداتهم وتقاليدهم ونعراتهم وأحقادهم ومزاياهم، إلى درجة أن الصقلي يبقى صقليا حتى لو عاش عقودا طويلة خارج الجزيرة. صقليون ومسلمون صقلية هي أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، ومساحتها تزيد عن 25 ألف كيلومتر مربع، يسكنها حوالي ستة ملايين نسمة، وتوجد بها أزيد من 400 بلدة ومدينة، وأكبر مدنها باليرمو، وهي عاصمة الجزيرة، إضافة إلى مقاطعات أخرى مثل كاتانيا وميسينا وتراباني وراغوزا. يقولون في إيطاليا إن الذي لم يزر صقلية لم يزر إيطاليا، وهذه المقولة نابعة من كون هذه الجزيرة أفضل المناطق التي يمكن أن تعكس الطابع المعماري الإيطالي العتيق، وأيضا العقلية الإيطالية في شكلها الخام، وكذلك التاريخ الإيطالي الذي كان مزيجا من الحروب بين مختلف مناطق البلاد التي تقاتلت من أجل السلطة والنفوذ، وتحالفت من أجل أن تكون الأقوى بين الأمم الأخرى. تاريخ صقلية يوجد جانب مهم منه في يد المسلمين، حيث دخلتها الجيوش من شمال إفريقيا سنة 652 ميلادية، لكن المؤرخين يقولون إن المسلمين لم يبقوا طويلا في مركز الجزيرة، وتوزعوا على المناطق الساحلية للجزيرة، وهناك أقاموا مدنا أخرى أو مراكز تجارية ومرافئ للتبادل التجاري بين باقي مرافئ حوض البحر الأبيض المتوسط. ظل المسلمون في الجزيرة وقتا طويلا. ويقول الكثير من المؤرخين الأوروبيين إن المسلمين قادوا عملية عصرنة اقتصادية وزراعية رائدة في الجزيرة، وحتى عندما تقلص وجودهم هناك بداية القرن التاسع الميلادي، فإن حضورهم كان يعود ليتقوى بين الفينة والأخرى، مثلما حدث سنة 820 ميلادية، عندما استنجد بهم القائد البيزنطي يوفيميوس، الذي استولى على الحكم بمساعدة نبلاء صقليين، وأعلن نفسه إمبراطورا، بعد العون الذي قدمه له المسلمون بشمال إفريقيا، مقابل السماح لهم لنشر الإسلام بحرية في صقلية. كانت هذه المناسبة فرصة لكي يعود المسلمون بقوة إلى الجزيرة، بجيش مكون من العرب والأندلسيين والبربر، وتحولت صقلية إلى الحكم الإسلامي لقرون طويلة. اليوم تبدو صقلية وكأنها لا تزال تحتفظ بالكثير من عبق ذلك الماضي. فأزقة مدنها العتيقة تتشابه في الكثير من تفاصيلها مع المدن العربية والأندلسية. وملامح سكانها فيها الكثير من الشبه مع ملامح سكان شمال إفريقيا. لعبت صقلية دورا مشابها للذي لعبته الأندلس في كونها معبرا للثقافة العربية الإسلامية نحو الغرب، لكن الوضع في صقلية كان مختلفا لأن الوجود العربي الإسلامي بها لم يكن كاملا، كما أنه لم يدم أكثر من أربعة قرون، في الوقت الذي كانت الأندلس دولة إسلامية بالكامل لمدة ثمانية قرون. وفي الوقت الذي كان فيه الأندلسيون هم بأنفسهم الشعوب الأصلية لشبه الجزيرة الإيبيرية بعد أن اعتنقوا الإسلام، فإن الوضع في صقلية لم يكن كذلك، لكن هذا لم يمنع من تأثر الصقليين كثيرا بالتقاليد العربية الإسلامية وباللغة العربية، إلى درجة أن الملك روجير النورماندي كان كثير التأثر بكل ما هو عربي وإسلامي، وكانت أزياؤه شبيهة بأزياء خلفاء المسلمين، وفي جيشه كان الكثير من المقاتلين المسلمين، وأيضا كان له أطباء ومحاسبون ومستشارون من المسلمين. الزيتون والبسطيلة المغربية لا تزال صقلية إلى اليوم تعتبر مهدا لزراعة أشجار الزيتون، وهذا ما جعلها واحدة من المناطق الأكثر تصديرا واستهلاكا لهذه المادة الحيوية في الغذاء العالمي. وفي تاريخ هذه المنطقة، يمكن العثور على تقاليد عريقة في زراعة أشجار الزيتون، والتي أصبحت اليوم عصب اقتصاد الجزيرة، بالإضافة طبعا إلى قطاع السياحة الذي يلعب دورا كبيرا في تنمية استثمارات ومستوى عيش السكان. وتوجد في صقلية عائلات شهيرة بنت مجدها الاقتصادي والمالي على تجارة زيت الزيتون، مثل عائلة باربيرا، التي تعتبر الأكثر شهرة في الجزيرة، وربما الأكثر غنى بفضل متاجرتها في زيت الزيتون. وفي رواية «مافيا»، لماريو بوزو، التي تحولت إلى فيلم «العراب»، لعب زيت الزيتون دورا كبيرا في ازدهار أحوال العائلات الصقلية التي هاجرت نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فأغلب العائلات الإيطالية الشهيرة في أمريكا، والتي تعرف بالعائلات المافيوزية، تاجرت في البداية بزيت الزيتون، قبل أن تحول أنشطتها إلى مجال العقار والسياحة والمضاربات. وبالإضافة إلى زيت الزيتون، ومنتوجات زراعية أخرى كثيرة مثل قصب السكر والفواكه، فإن صقلية اشتهرت أيضا بصناعة غذائية أخرى هي الحلويات. ويقول المؤرخون إن حلويات صقلية كانت تحمل في الماضي كهدايا إلى ملوك الشرق، مثل الفراعنة في مصر والأكاسرة في بلاد الفرس. لكن صقلية أيضا استوردت الكثير من تقاليدها في الأكل من العرب والمسلمين، وإلى الآن لا تزال توجد أكلة معروفة باسم «سفولياتيلي»، وهي نسخة من أكلة البسطيلة المغربية، والتي يمكن اعتبارها حاليا أكلة مغربية أندلسية صقلية. في مختلف المدن والمناطق الصقلية، يعتبر السمك «وجبة وطنية»، لذلك فإن الكثير من المطاعم، وأغلبها في الهواء الطلق خلال الصيف، تعطي لزبنائها الحق في طهي وجبات السمك بأنفسهم، خصوصا وأن الأمر لا يتطلب سوى الوقوف لبضع دقائق قرب الشواية في انتظار أن يصبح السمك جاهزا، ويتم وضعه في صحون وتناوله. يقول الكثيرون ممن يزورون صقلية إن الحياة فيها عفوية إلى درجة كبيرة، بل إنها حياة تكاد تقترب من العشوائية. تنتج صقلية الكثير من المحاصيل الزراعية الأخرى، مثل الفواكه والقمح والزهور. ومن الطبيعي أن زهور صقلية أصبحت تحظى بصيت عالمي، حيث يمكن العثور عليها في أشهر أسواق الزهور في أوروبا وغيرها من القارات. إن هذه الجزيرة التي يصورها الكثيرون على أنها مهد المافيا ومعقل الجريمة المنظمة، هي في الحقيقة مهد الجمال الطبيعي وسلة غذاء إيطاليا. إنها تتوفر على احتياطات كبيرة من الماء، وهذا ما يجعلها تنتج أيضا أزيد من 70 في المائة من الإنتاج الإيطالي للقطن. كما أن سكانها يبرعون في تربية الأغنام والأبقار والخيول، وفوق كل هذا وذاك، فإن الجزيرة أصبحت واحدة من أكبر المناطق تصديرا واستهلاكا للأسماك. وفي الماضي، عندما كانت العائلات الصقلية تتصارع من أجل النفوذ، فإن لغة التهديد بينها كانت هي أن يتم إرسال سمكة وسط قطعة من قماش إلى الخصم، وهذا يعني أنه سيموت قريبا. أما اليوم، فإن مطاعم صقلية تضع نفس الأسماك أمام زوارها، لكنها أسماك لذيذة للأكل، وليست للتهديد.