أشياء عديدة تغيرت في واقعنا الاجتماعي، وقد يبدو الأمر طبيعيا حين نؤمن بأن التطور منطق يحكم المجتمع والحياة بالضرورة، إلا أن ما يبدو غير طبيعي نهائيا هو أن التحول السلبي هو المتضخم في هذا الواقع. وما يهمنا أن نقف عنده أساسا هو ظاهرة انسحاب أطراف عديدة مهمة من التموقع في الصراع الاجتماعي، بل وإعلانها عن موت هذه الوظيفة، وتهافتها على تسخيف وتشويه أي حديث عن الصراع والتموقع فيه، وعن الحاجة إلى دعم الخاسرين، وهذا ما يمكن التمثيل له من مجالات عديدة، خاصة المجال الثقافي الذي يهمنا في هذا الحديث. مثل هذا المنطق المتهافت حضر دوما في واقعنا، بل حضر كذلك حتى في المجتمعات المتقدمة، وهذا ما لمح إليه يوما الكاتب الألماني غونتر غراس في حديث له مع أحد الأصوات الأكثر حماسة للدفاع عن المغلوبين نظريا وممارسة في أوروبا قبيل رحيله، وهو بيير بورديو، حيث قال: «كلانا سيئ السمعة في مهنته، لأنه يقف إلى جانب الخاسرين، إلى جانب المهمشين والمنبوذين خارج المجتمع». إنه أمر حدث دوما عندنا، وقد تم التعبير عنه بصيغ عديدة في العقود الماضية. حصل ذلك حين كان مناضلو الثقافة والسياسة والعمل الجمعوي... يكرسون قناعاتهم المبدئية بتقبل الاعتقال والنفي والشهادة والتعذيب كضرائب لدعم المغلوبين والبسطاء ومن لا صوت لهم. لقد غرب حماس الأمس، واهتزت الكثير من القناعات، وهذا أمر يخص أصحابها لوحدهم، لكن ما لا يجب أن يغرب هو أن مقاومة اللاعدالة والظلم والاعتداء على المواطنين بأي صيغة من مسؤولية الثقافة وكل المشتغلين بها، كما أن دعم البسطاء هو الجوهر الأصيل الذي لا يجب إفناؤه في الثقافة، إلا أن تأمل هذا المجال الآن يؤكد أن الجوهر قد تقلص كثيرا، حيث إن الثقافة بمعناها المعمم في هذا الوطن تتبرأ من وظائفها الموضوعية، وتجنح نحو الانسحاب تجذيرا منها لمشروع مسحها التدريجي في زمن الانهيار حتى تتماثل معه. حين نقول هذا لا ننطلق بالضرورة من إيمان واهم بالوظيفة الرسولية للثقافة، ومن اعتقادنا بكون المثقف هو المخلص، بل ننطلق من مبدأ قال به الكثير من الكبار يقول بالحاجة إلى «التمسك بالمبادئ النظرية الصحيحة وصهر ذلك في الممارسة الفاعلة» خدمة لاحتياجات الواقع كلها. إنه الشيء الغائب بامتياز في واقع المغرب، لأنه أن يتم سحق المواطنين بشكل همجي بسيدي إفني لأنهم طالبوا برفع التهميش عنهم، وأن يتم قبل ذلك قمع المواطنين بوحشية واعتقالهم بصفرو ومناطق عديدة، وأن يتم الحكم على غالبية أهل المغرب بالموت بالتقسيط بسبب الغلاء والإهمال، وأن تعصف السياسة الرسمية بمجانية العلاج، والمدرسة العمومية، وكل حقوق المواطنة التي ناضل من أجلها من حرروا المغرب بالفعل من المستعمر دون أن تقول الثقافة كلمتها، ويكون لها موقف فاعل وصلب ومؤثر، وتعمل، هي وكل المرتبطين بها ومؤسساتهم كل ما في وسعهم لفرضه، ودون أن يقر كل من يعيش من أجل الثقافة أو بها أن الصمت والانسحاب وتلطيف الصراع الاجتماعي بالبلاغة الملساء، لا يعني إلا شيئا وحيدا هو أن الثقافة قد تم تأميمها لصالح الغالبين، وحين يحصل هذا تسقط الثقافة وأصالتها لتتماثل مع زمن الانهيار.