سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المفارقات الصارخة في اعتقادات المواطنين الأمريكيين حول أنفسهم كتاب «الذهنية الأمريكية.. ما بعد باراك أوباما» يفضح العقلية الممزقة التي يعيشها الشعب الأمريكي
يبقى هوارد زين، Howard Zinn، إلى جانب إدوار سعيد ونعوم تشومسكي، أحد المثقفين الأمريكيين الراديكاليين الذين لعبوا في المشهد السياسي والتاريخي والثقافي الأمريكي دور الضمير الحي واليقظ لزمانهم. انخرط، عن قناعة فكرية وسياسية، في باحات وحلبات الأحياء الجامعية، داخل المدرجات، وفي المظاهرات، للدفاع عن انبثاق وقيام مجتمع أمريكي إنساني وعادل بعيدا عن إرادة القوة والهيمنة. إن كان شغوفا بالمسرح والفنون، فإن التاريخ والعلوم السياسية يبقيان مجال تدخله بامتياز. ولد هوارد زين بحي بروكلين بنيويورك في 24 غشت من عام 1922 وتوفي في 27 يناير 2010 بسانتا مونيكا، بكاليفورنيا. خلفت مشاركته في الحرب العالمية الثانية أثرا صادما على حياته، دفعته إلى التمرد لاحقا على كل أشكال العنف. من بين نتاجه الوفير، تبقى نصوصه المترجمة إلى أكثر من لغة، مثل «تاريخ شعبي للولايات المتحدة من 1492 إلى اليوم» و«عودة كارل ماركس» و«القرن العشرون الأمريكي» و«الحياد المستحيل» و«سيرة ذاتية لمؤرخ ومناضل»، من بين مرجعيات الثقافة الأمريكية الحديثة. واللافت أنه غالبا ما تصدر نصوص هوارد زين سواء في نسختها الأصلية أو مترجمة لدى «ناشرين صغار»، وهو اختيار استراتيجي سطره المؤرخ منذ البداية. يتألف هذا الكتاب من ثلاثة نصوص يؤالف بينها الخيط التالي: نقد «النزعة المهدية» التي تحكم وتتحكم في العقلية الأمريكية والتي تقوم على ترقب الرئيس المنتظر الذي له القدرة على تخليص الشعب الأمريكي من محنه. لدى انتخاب الرئيس الجديد باراك أوباما، استحوذ الشعور نفسه على العقلية الأمريكية. خلف مجيء بارك أوباما إلى البيت الأبيض بالكاد ارتياحا كبيرا في العالم. تجلت أولى انعكاسات هذا التغيير في طرد إدارة قامت دبلوماسيتها على لغة العنف والتحقير في أبشع صورهما. نزول الستار على مشهد هذه الإدارة هو، في حد ذاته، مكسب ثمين. لكن بمعزل عن هذا الحدث الظرفي، فإن ثمة رهانا حقيقيا يستدعي الانتباه: ألا وهو فهم العقلية الأمريكية التي تبقى مصدرا للتزاوج بين الجودة والرداءة.. وعليه، تعالج النصوص الثلاثة التي تؤلف هذا الكتاب رأسا تاريخ الأخلاق المدنية للشعب الأمريكي. ويذكر هوارد زين أن التاريخ الأمريكي صيغ بكيفية تتيح الجمع ما بين كبح التقدم الاجتماعي وقمع الحريات، من جهة، وتوفير إمكانياتها، من جهة ثانية. وتتطلب الظرفية الراهنة، أكثر من أي وقت مضى، التمييز بينهما. الدراسة الأولى من هذا الكتاب، «ما بعد أوباما»، هي استعادة منقحة لنص المحاضرة التي ألقاها هوارد زين في مدينة مونريالبكندا في شهر نوفمبر 2009 ، وذلك مباشرة بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض. النص الثاني، «القانون والعدالة»، هو مراجعة لتاريخ الصراعات داخل الولاياتالمتحدة، وذلك من أجل مكسب العدالة، «وهي صراعات تشكل مبررا للتفاؤل في أفق قيام مزيد من الحرية»، يقول زين. أما النص الثالث فيعالج مسألة العصيان المدني ورفض الاستسلام. آفة النزعة الوطنية الآفة الرئيسية للعقلية الأمريكية، يلاحظ هوارد زين، هي سيادة النزعة الوطنية الرخيصة والتافهة التي، تحت غطاء الاحتفال بوحدة البلد، تحجب الخلافات الحقيقية والعنف الذي يدمغ الحياة اليومية. يشير زين إلى أن الثقافة تمرر صورة شمولية توحي بأن الشعب الأمريكي عائلة كبيرة موحدة. ينشأ الأمريكي، منذ حداثة سنه، على الفكرة القائلة بأن كل الناس يتقاسمون المصالح نفسها وبأن الدفاع الوطني أو الرهانات الحيوية للأمة لها دلالة مشتركة، لدى الرئيس المدير العام لشركة البترول «إيكسون»، مثلا، ولدى أبسط مستخدميه. تكبح هذه العقلية إمكانية نقاش الفروقات والتمايزات الاجتماعية، بل أي نقاش سياسي. يغري هذا النوع من التفكير المواطن الأمريكي، وذلك بتكريسه للقناعة القائلة بأن للولايات المتحدة رسالة حضارية وسامية. باسم هذه الرسالة، ينساق المواطنون إلى تبرير، بل إلى خوض حروب خارجية. ولحسن الحظ، لا يزال البلد يتوفر على تقليد قوي وراسخ في مجال العصيان المدني، وهذا برهان ساطع على تعلقه بالحرية. مفارقات الخطاب الأمريكي بيد أنه من الضروري التذكير بالمفارقة الصارخة التي يقوم عليها الخطاب الأمريكي والتي تعلن أن الناس يولدون أحرارا وسواسية، وفي الوقت ذاته تدافع عن الميز العرقي. تطالب العدالة برفض، بل بمواجهة القوانين العنصرية حتى ولو بالعصيان. لكن لما يخرج الناس في مظاهرات عصيان، يعتقلون ويقدمون للمحاكمة! يخلص هوارد زين إلى أن العقلية الأمريكية عقلية ممزقة. في هذا الكتاب، وبالاتكاء على العديد من الأمثلة وبناء على التجربة الشخصية للكاتب نفسه، نعيد اكتشاف ما تدين به الحرية للعصيان المدني وللمعارك السياسية التي كانت الولاياتالمتحدة مسرحا لها. ندرك بالأخص أن هذه الحرية لا تدين بشيء للنزعة الوطنية المغشوشة التي ينهل منها المحافظون الجدد والمناصرون للأمركة الخالصة. وبفضل هذه المعارك، لا بفضل الجنرالات، وصل باراك أوباما إلىالبيت الأبيض. ما بعد باراك أوباما خلال حملته الانتخابية، صرح أوباما أمام الناخبين: «علينا الانسحاب من العراق. لكن أهم شيء هو التخلص من حالة الفكر التي أوصلتنا إلى العراق». اعتبر هوارد زين أن لتصريح أوباما أهمية بالغة، لأنه تطرق إلى حالة التنويم الفكري التي طالت المواطن الأمريكي منذ زمن بعيد والتي مكنت الحكومة الأمريكية من جر المواطنين إلى حروب دائمة ودامية بالاعتماد على دعمهم ومساندتهم. العنصر الثاني الذي شدد عليه المؤرخ هو فكرة تقاسم الأمريكيين للمصالح نفسها والتي ينشأ في أحضانها الأمريكي منذ حداثة سنه. تمرر الثقافة الأمريكية بالفعل لغة شمولية تجعل من جميع الأمريكيين أناسا سعداء ينتمون إلى العائلة نفسها، مع توافقهم المشترك حول قضايا الأمن الوطني والمصلحة الوطنية والدفاع الوطني. تتصدر هذه الديباجة الدستور الأمريكي: «نحن شعب الولاياتالمتحدة...». غير أن الواقع شيء آخر. فقد اجتمع 55 من الأثرياء بفيلاديلفيا عام 1787 للمصادقة على وثيقة حرروها لخدمة مصالحهم الشخصية أو، بعبارة أخرى، لخدمة مصالح الطبقة التي ينتمون إليها. كان السود على علم بأن الدستور لم يحرر لصالحهم أو لخدمتهم. الفوارق الصارخة منذ بداية تأسيسه، كان البلد مدموغا بفوارقه الصارخة: الأغنياء، من جهة، والفقراء، من جهة ثانية. ملاكو الأراضي وأصحاب الضيعات، والمزارعون الفقراء. منذ البداية، اندلعت واحتدمت الصراعات. بدل الإجماع الذي مررته الإدارة الأمريكية، شاهدنا بالعكس تمزقات ترجمها فرار البعض إلى كندا، ورفض البعض الآخر الانخراط في سلك الجندية، وتمرد الجنود.. إلخ. وعليه، طمس التاريخ الرسمي مثل هذه الأحداث للتركيز فقط على جنود جورج واشنطن والمعارك البطولية ضد إنجلترا. كان هؤلاء الجنود أناسا بسطاء شاركوا في الثورة، لا باسم الأفكار العظمى التي هي الديمقراطية والحرية، بل لأنهم كانوا يعيشون حياة بئيسة ويبحثون، بكل السبل، عن إمكانيات لتحسين وضعيتهم. وهي الأسباب نفسها التي تدفع بالشباب إلى الالتحاق بالجيش. «أريد أن أخلص إلى القول بأن الصراع الطبقي كان قائما قبل وخلال وبعد الثورة. حرص الدستور على مصالح ملاك العبيد والتجار والمضاربين في أراضي غرب الولاياتالمتحدة. كرست وثيقة الدستور هيمنة طبقة على طبقات أخرى. وكانت مبررات الحكومات المتعاقبة هي خدمة مصالح النخبة الثرية. لم تعرف وضعية المستضعفين بعض التحسن إلا بفضل الاحتجاجات التي قامت بها هذه الشرائح على غرار الانتفاضة التي قام بها السود في الستينيات. لكن الحكومة لم تدافع، في غالب الأحيان، سوى على مصلحة واحدة. وهذا ما تؤكده السياسة المتبعة في العقدين الأخيرين من طرف إدارة جورج بوش والتي بلغت فيها الهيمنة الطبقية مستويات غير معهودة وغير مسبوقة، الشيء الذي تسبب نسبيا في فوز الحزب الديمقراطي. إن الفكرة القائلة بتقاسم المصالح نفسها هي أحد مكونات حالة الفكر الأمريكي، وهي حالة استيهام وتزييف. حالة الفكر الاستيهامي كما يتضمن هذا العامل عنصرا آخر، ألا وهو الاستثناء الأمريكي الذي بموجبه تقدم الولاياتالمتحدة كبلد استثنائي، مغاير. وحسب هذا التصور، فالولاياتالمتحدة مدينة «قامت على تل عالٍ». والعبارة مستوحاة من إنجيل توما. ويستعرض هوارد زاين مسلسل التوسع الذي دمغ مسيرة الولاياتالمتحدةالأمريكية من الاستحواذ على اللويزيان إلى غزو العراق مرورا بالاستيلاء على شطر من المكسيك والكرايبي. تقوم حالة الفكر الأمريكي على عنصر آخر يقول إن قوة السلاح أفضل وسيلة لإنجاز أي مشروع. كما أنها تشكل أنجع وسيلة لمحاربة الإرهاب. لما نلقي نظرة متأنية على ما يسمى الإرهاب، نجد أن الولاياتالمتحدة، يقول زين، هي التي تغذي الإرهاب، بفضل ترسانتها العسكرية والنووية، وبفضل قواعدها المبثوثة في 100 بلد. ويتساءل المؤرخ قائلا: «لتجنب الإرهاب، ألا يجب إعادة النظر في السياسة الخارجية القائمة على التهديد والتخويف والقوة العسكرية، وذلك بنهج تغيير جذري لتصرفاتنا في العالم؟». لما دعا باراك أوباما إلى سحب القوات الأمريكية من العراق، هل فهم الدلالة العميقة لتصريحه؟ هل له القابلية والاستعداد الكافيان لذلك؟ هل يمكنه التفكير بطريقة أخرى؟ مثل العديد من الأمريكيين، رأى هوارد زين في انتخاب أوباما رئيسا، مبعثا للأمل. «لأنه وفر فرصة ثمينة لطرد عصابة بوش من البيت الأبيض». لكن غداة انتخابه لاحظنا، للأسف، أنه لم يقلع عن التوجه العسكري الذي حكم ويحكم عقلية الإدارة الأمريكية. فقد دعا إلى سحب الجنود من العراق، لإرسالهم إلى أفغانستان! وأبقى على الميزانية العسكرية التي بلغت 600 مليار دولار عام 2009. لم ينفض أوباما، إذن، عن سياسته الحالة الذهنية أو الفكرية السابقة. والشيء ذاته ينطبق على سياسته الداخلية. «يجب ألا نثق في باراك أوباما الذي يبدو أنه غير قادر على سحب البلد من دوامة الحرب وعلى تقديم حلول ناجعة لصالح المستضعفين...»، يقول المؤرخ. أمريكا هي اليوم بحاجة إلى حركة اجتماعية جديدة مثل حركتي 1930 و1960 اللتين دفعتا الحكومة، تحت الضغط، إلى نهج سياسة اجتماعية لصالح المستضعفين. لسنا بحاجة إلى أن نكون قوة عسكرية، بقدر ما نحن بحاجة إلى أن نصبح قوة إنسانية عظمى. القانون.. العدالة وواجب العصيان لم تصبح قضية «القانون والنظام» وقضية العصيان المدني أحد مشاغل هوارد زاين إلا عندما انخرط في الحركة المناهضة للميز العنصري في جنوبالولاياتالمتحدة الذي شهد حملات اعتقالات مكثفة في صفوف السود بسبب «مخالفاتهم» المتعمدة للقوانين المحلية. فباسم القانون والنظام، يتم إرسال الشرطة لتفريق المتظاهرين، باسمهما يطلق النار على الطلبة في الجامعات. إن السلم والاستقرار والنظام هي من الأشياء المستحبة، وإن الفوضى والعنف غير مرغوب فيهما. لكن الحياة في مجتمع ما، معناها توفر العدالة، وتوفر الحق للجميع في الحرية والرخاء. إن أسبقية الحق لم تلغ التوزيع اللامتكافئ للثروات وللسلطة، بل عززت، عكس ذلك، من سطوتهما، وذلك بفضل سلطة القانون. على واجهة مبنى المحاكم، نحتت القولة التالية: «كلنا سواسية أمام القانون». لكن هل صحيح أن هذا الأخير يعامل الأغنياء والفقراء، السود والبيض، الأمريكيين والمهاجرين، المسيرين الكبار والمواطنين العاديين، معاملة متكافئة؟ وكمثال على هذا التمييز، يذكر هوارد زين بالعديد من الفضائح التي تورط فيها رؤساء ومسؤولون كبار، لكن العدالة «غسلت» ذممهم بكل سهولة، مثل فضيحة واترغيت التي أطاحت بالرئيس نيكسون، من دون أن تقلق راحته العدالة. إن العصيان المدني لا يشكل قطيعة مع الديمقراطية، بل هو، على العكس من ذلك، أحد عناصرها الأساسية لأنه يخلق ضميرا يقظا ضد انجرافات المجتمع نحو الخنوع والطاعة. وقد كانت انتفاضة السود في جنوب أمريكا أو عصيان بعض عناصر الجيش الأمريكي ضد الحروب اللامشروعة التي خاضتها أمريكا، من حرب الفيتنام إلى حروب العراق، أمثلة حية على ذلك. كان هوارد زين أحد المعارضين الراديكاليين للحرب ولجغرافيتها التوسعية، نتيجة استقواء الهيمنة الأمريكية. ناهض بعنف حربَ، بل حروب العراق. وفي العديد من مقالاته ودراساته، شدد على أهمية الضغط الشعبي والمقاومة داخل الولاياتالمتحدة وداخل الجيش الأمريكي في الضغط على الإدارة الأمريكية، وذلك على غرار ما وقع في حرب الفيتنام. في نظر هوارد زين، لم تتخلص الإدارة الأمريكية، بمحاربتها «للترسانة النووية العراقية» و«الإرهاب»، من «عقلية الجريمة والعقاب»، وهي بذلك عقلية إنجيلية، لاهوتية خالصة. وينطبق الشيء نفسه، على إسرائيل والصهيونية. كان هوارد زين، المنحدر من عائلة يهودية، مثله مثل نعوم تشومسكي، أحد المناهضين الأقوياء للصهيونية بما هي إيديولوجية انتقاء واصطفاء، بالمعنى اللاهوتي، والتي كان من انعكاساتها الوخيمة إقصاء الشعب الفلسطيني مع نزوع دائم إلى هدم مقومات كيانه. لم تقتصر معاركه على الجبهة الخارجية، بل ركز تدخلاته أيضا على الجبهة الداخلية، ممثلة في الحلف المقدس بين الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني الأمريكي النافذ.