بمجرد التفكير في أنني سأكون في فلسطين، تلك الأرض المباركة، تسري قشعريرة في جسدي، عندما أفكر أنني سأكون في ضيافة المقاومين من أهل غزة الذين علموا العالم معنى المقاومة والصمود وبذل الغالي والنفيس في سبيل الذود عن أرضهم أشعر أنني فعلا محظوظة. أليانور روزفلت قالت: «تستمد القوة، الشجاعة والثقة بالنفس من كل تجربة تقف فيها مواجها الخوف بشكل مباشر وجها لوجه... يجب أن تقوم بعمل ما تظن أنك لا يمكن أن تقوم به..». لطالما أحببت هذا الشعار، الذي أحس أنه ينطبق على كل من شارك في أسطول الحرية من نساء ورجال، شباب و شيوخ، وكل من خاطر بحياته ليكون حاميا للمساعدات الإنسانية التي كانت في طريقها إلى أهل غزة المحاصرين ،الذين يعيشون داخل سجنهم المفتوح في الهواء الطلق أمام عيون العالم. عندما علمت بتأكيد مشاركتي في الأسطول، غمرتني دفعة نشاط وحيوية لم أشعر بهما من قبل، فرغم ساعات النوم القليلة التي كنت أختلسها، كنت أستيقظ مفعمة بالحماس، فبداخلي كنت أعرف أنني مقدمة على تجربة حياتي، كنت على يقين أن مشاركتي ستكون نقطة انعطاف تاريخية في حياتي ،بعدها ستتغير مسيرتي بالكامل. بمجرد التفكير في أنني سأكون في فلسطين، تلك الأرض المباركة، تسري قشعريرة في جسدي، عندما أفكر أنني سأكون في ضيافة المقاومين من أهل غزة الذين علموا العالم معنى المقاومة والصمود وبذل الغالي والنفيس في سبيل الذود عن أرضهم أشعر أنني فعلا محظوظة. الاثنين 24 ماي 2010 وصلنا حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف إلى القاعة الرياضية المغطاة التي من المفترض أن تكون مقر إقامتنا إلى حين انطلاق السفن، عند وصولنا كان المنظمون يجهزونها وقد بدؤوا بتعليق علم فلسطيني ضخم في جهة من الملعب. بمجرد وصولنا، بدأنا نحن الصحفيين بالعمل فورا، انكببنا على حواسيبنا، نكتب ونقوم بما علينا القيام به، كان الملعب خلية نحل بكل معنى الكلمة، ولم يمض وقت طويل حتى امتلأت القاعة بالحشود التي لم ننتبه متى توافدت، مزيج من الجنسيات، اللغات والديانات في تناغم نادر الوجود. أقيم أول مؤتمر صحفي مساء ذلك اليوم، لم يكن مؤتمرا صحفيا بمعنى الكلمة، بل خطابا ألقاه رئيس هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية، بولنت يلدرم، رحب فيه بالمشاركين وذكرهم بالهدف النبيل الذي اجتمعنا حوله، كما نصحنا بالصبر خلال رحلتنا، وقال: «اليوم سأرى إن كنتم ستجتازون أول اختبار لكم، كان من المفترض أن نتحرك إلى غزة غدا، لكن أصدقاءنا في باقي السفن يعانون من بعض المشاكل، سفننا جاهزة لكننا نفضل أن ننتظرهم، هل أنتم مستعدون للانتظار؟» ولم يكد ينهي سؤاله حتى اهتزت أرجاء القاعة بصوت واحد: نعم ! بعدها تم نقل النساء وبعض المشاركين إلى نزل، بينما فضل معظم الرجال البقاء في القاعة، التي أصبحت منزلهم المؤقت إلى حين ذهابنا. مر يوما الثلاثاء والأربعاء مشحونين بالمقابلات، المؤتمرات الصحفية التي أكد المشاركون فيها إصرارهم على تحدي التهديدات الإسرائيلية بالتعرض للأسطول، ولم يبد أي منا تراجعه ولا خوفه، بالعكس. وخلال مدة إقامتنا في أنطاليا، كان العديد من الأتراك يتوافدون علينا، حاملين الطعام والشراب، حتى أن الكثير منهم دعانا إلى الإقامة في منزله، العديد منهم كان يجلب يوميا أنواعا مختلفة من الأطعمة، الفواكه وغيرها، حتى الورود ! كانوا يسهرون على راحتنا بشكل يفوق كل التصورات، وأكثر ما كانوا يحرصون عليه هو التقاط صور معنا، وخاصة مع أطفالهم...غمرونا بحب وحنان، فيهما دليل على روحهم النقية وأحاسيسهم الصادقة تجاه القضية الفلسطينية. الخميس 27 ماي 2010 لم أستطع النوم خلال الليلة التي سبقت هذا اليوم، وأعتقد أنني لم أكن الوحيدة التي حدث معها ذلك، لأن معرفتنا أن هذه آخر ليلة لنا على اليابسة جعلتنا نحاول استثمارها بشكل أو بآخر. بالنسبة لي، فقد قضيتها بصحبة مجموعة من الأصدقاء من صحفيين ومشاركين آخرين في الأسطول في مقهى هادئ، رسمنا خططا لتنسيق جهودنا وأعمالنا خلال تواجدنا على متن السفينة، وحين عودتنا وتبادل تحيات المساء، صعد كل منا إلى غرفته، كانت لورا الناشطة الإسبانية رفيقتي في الغرفة متعبة كثيرا فغالبها النوم سريعا، أما أنا فبدأت بترتيب حاجياتي وجلست بعدها أمام حاسوبي أحرر إحدى المقالات التي أرسلتهاإلى جريدة «المساء» حول فعاليات الأسطول، وعند الساعة الخامسة صباحا، لم أعد قادرة على مقاومة النوم، فاستغرقت في سبات عميق لم يوقظني منه سوى صوت لورا تناديني على الساعة الثامنة لكي أستعد للخروج لتناول الإفطار وموافاة باقي الفريق لننطلق سوية إلى القاعة الرياضية، حيث من المفترض أن ينطلق منها كل المشاركين باتجاه الميناء. عندما وصلنا إلى القاعة اندهشنا من الحشود الغفيرة التي كانت أيضا خارجها، وبعد المؤتمر الصحفي الأخير الذي عقد قبل الإنطلاق، أقيمت صلاة الجنازة على الغائب على روح شهيدي هيئة الإغاثة اللذين قضيا في حادث تحطم طائرة في جبال أفغانستان، بعدها بدأ المشاركون بالخروج جمعا جمعا نحو القاعة لنستقل الباصات التي جاءت لتقلنا إلى الميناء، وانطلقنا في موكب تجاوز 50 سيارة جاءت لترافقنا في جو مؤثر، حتى أن الناس طوال الطريق كانوا يهتفون ويلوحون لنا وهم يحملوننا سلامهم لأهل فلسطين وقد سالت دموع الكثيرين على خدودهم وهو يدعون لنا بالسلامة والسداد. كما أن السيارات التي كانت تتقدمنا كانت تنثر الورود في طريقنا بواسطة مجموعة من الأطفال، وقتها فعلا أحسست بشيء في داخلي، لأن هذا المشهد جعلني أحس كأن هذه الورود تفرش طريق الشهادة أمامنا، لا أدري لماذا اتجه فكري إلى هذا الجانب، لكن منظر الورود المتناثرة مع الرياح التي كانت تملأ طريقنا جسد لحظة وداع بشكل غريب. كما كانت الأعلام الفلسطينية ترفرف من خارج نوافذ الباصات وسيارات الموكب حتى وصلنا الميناء الذي لم نستطع بلوغ بابه إلا بعد تجاوز حشود غفيرة من المودعين الذين أصر العديد منهم أن يساعدنا على حمل حقائبنا رغبة منهم بالمساهمة ولو بتصرف كهذا للتعبير عن امتنانهم وتقديرهم لما نقوم به. داخل «مرمرة الزرقاء» عندما اجتزنا باب الميناء، وحسب الإجراءات التي تم الاتفاق عليها من قبل، تعرض كل المشاركين إلى تفتيش حقائبهم وتفتيش شخصي من أجل ضمان احترام كل منا لشروط المشاركة التي تنص على عدم حمل أي نوع من الأشياء التي يمكنها أن تخل بهدف الرحلة وخاصة الأسلحة أو كل ما يمكن أن يستخدم كسلاح. بعدها، وقبل دخول السفينة كان يتم التحقق من تواجد أسماء المشاركين على القائمة، ليسمح لنا بعدها بالدخول، وحالما وطأت قدمي السفينة قفزت من شدة الفرح و أنا أعانق إحدى زميلاتي ، فرغم دخولي السفينة من قبل خلال رسوها في المياه في ميناء إسطنبول، لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا، لأن هذه الخطوة هي الأولى نحو رحلة العمر بالنسبة لكل واحد منا. كانت أول قاعة في الطابق الأرضي مخصصة للنساء اللاتي كان عددهن تقريبا 85، عندما دخلت القاعة لأضع حقيبتي، كانت المشاركات قد أخذن مكانهن كل في زاوية، يتعارفن ويتبادلن أطراف الحديث، لكنني لم أستطع البقاء طويلا هناك لأنني كنت أتوق للدخول إلى قاعة الإعلاميين ومقابلة زميل العمل جودت كيليتشلار (الذي سيستشهد لاحقا خلال الإعتداء الإسرائيلي الوحشي علينا). صعدت إلى الطابق الثالث وأنا أركض على الدرج، وما إن دخلت القاعة حتى شعرت بدماء جديدة تتدفق في شراييني، كانت القاعة عبارة عن طاولات متراصة على كل واحدة منها يتواجد 4 حواسيب، كان العدد الإجمالي للحواسيب 16 حاسوبا خاصا بالصحفيين الذين كان عددهم تقريبا 60 . و قد اتفقنا مسبقا على كيفية استعمال الحواسيب التي كانت موصولة بشبكة الأنترنت، حيث كان كل منا يسجل وقت استخدامه وكنا نحرص على استخدامها فقط لإرسال الأخبار التي نقوم بتحريرها باستخدام حواسيبنا الشخصية، فلأسباب أمنية، كانت كل الحواسيب غير موصولة بالأنترنت ما عدا تلك التي جهزها منظمو الحدث. كان مكتب جودت ،وهو الذي كان مسؤولا علينا ،في آخر القاعة، سررت كثيرا بمقابلته، وشرعت أطرح عليه العديد من الأسئلة حول الحياة على ظهر السفينة وعن آخر الأخبار، فقد كان على متن السفينة ضمن الذين غادروا مع الطاقم من مدينة إسطنبول، بعد ذلك خرجت للتجول في باقي أرجاء السفينة التي كانت مقسمة كالتالي : الطابق الأول عند مدخل السفينة كان مخصصا للنساء، مع تواجد دورتي مياه على الجانبين وطاولة في الوسط خاصة بالمسؤولين عن الحراسة، كما كان هذا الطابق يضم المستودع ومستوصف السفينة. الطابق الثاني تتواجد فيه قاعات في كلا الجانبين، إضافة إلى قسم الإستعلامات الخاص بالسفينة وكان هذا الطابق مخصصا للرجال. الطابق الثالث ويضم قاعة الصحفيين ومنه نخرج إلى القسم المفتوح. ثم الطابق الرابع حيث مقصورة القبطان التي كانت محاطة بالحراس وكانت منطقة أمنية لا يجتازها سوى عدد محدود من الأفراد. وفي القسم الخلفي من هذا الطابق، كان المكان المخصص للبث الحي وإجراء المقابلات. كانت السفينة مجهزة بتقنيات متطورة خاصة بالبث وتسهيل عمل الإعلاميين وكان لها فضل كبير في إبراز همجية الهجوم الدموي الذي سنتعرض له لاحقا في المياه الدولية. عند حلول منتصف الليل، بدأ التحضير للإنطلاق حيث غادرت السفينة الميناء في عرس حقيقي تمازجت فيه مشاعر الفرح والدموع ونحن نلوح للصحافيين الذين كانوا في الجهة الأخرى من اليابسة يلتقطون صورنا ونحن نبتعد رويدا رويدا عنهم. أما السفينة فقد ظل الحماس وشعور عدم التصديق مسيطرا علينا لمدة ساعة تقريبا، بدأ بعدها كل منا في التحضير للنوم أو لتبادل الأحاديث بعد يوم حافل بالمشاعر والأحاسيس. كانت الرياح قوية جدا حتى أنني سرعان ما التجأت إلى قاعة الإعلام، حاولت العمل قليلا حتى أذان الفجر، صليت ونمت وأنا أحلم بشمس يوم ليس كسائر الأيام في عرض البحر تحت شعار «وجهتنا فلسطين.. حمولتنا المساعدات الإنسانية..». يتبع