خرج بنحميش على قراء «لوبينيون»، «الاستقلالية»، بمقال نشرت الصحيفة جزءَه الأول في الصفحة الأولى. حمل عنوان المقال حسرة، ندرت في زماننا الثقافي المغربي، على المثقفين الصامتين وأشباه المثقفين والصحافيين الذين لم يعانوا من أجل اكتساب «معرفة حقيقية». «آه على المثقفين» ! هكذا نطق حميش في مقاله، لتكون ربما انحرافا مفاجئا منه، خلال المسافة الزمنية التي قضاها، حتى الآن، في الوزارة، نحو كشف وجه نريد أن نألف ملامحه، بدل أن يظهر ثم يختفي. طاف حميش –الوزير- على أطياف المثقفين وأتى على ذكر الموالين منهم للأحزاب (أليس هو واحدا منهم؟) والمتواطئين في لعبة الإرضاء والتحالفات وأولئك الغائصين في المجرى الرسمي للأشياء... وانتهى إلى القول إن «المثقفين فقدوا تقريبا كل ميل إلى الإدهاش أو الاندهاش. يوجدون دائما حيث يتوقع أن يكونوا كما كائناتٍ مبرمجة إلى حد ما «ثم» لم تعد المعرفة المنيرة، المكتسبة بعد عناء، في نظر الكثير من الكتاب والصحافيين والمتحدثين شرطا أساسيا. يكفيهم اليوم أن يكونوا متكلمين، متمرسين على اللغو الفارغ، لكي يخوضوا ويعلقوا على ما هم جاهلون...». والنتيجة، يقول بنسالم، هي «فقر وضيق في العقول وسيادة ما يشبه المعرفة» وليس المعرفة الحقيقية. هي خرجة، إذن، للسيد الوزير، وهو المثقف المنتمي إلى حزب، وهو أيضا المنتمي إلى مؤسسة الدولة، وهو أيضا المسؤول عن وزارة مريضة تحتاج إلى الكثير من «المعرفة الحقيقية» -ليس تلك التي تحدث عنها هو نفسه في حسرته على المثقفين- لتغادر فراش المرض. إلا أن الخرجة «الحميشية» هاته تبدو ملتبسة، في سياق ملتبس، بل لم نسمع له «لغوا» حينما تعرض لكثير نقد وتعنيف لفظي ذاتَ معرضِ وجوائز الكتاب، بينما كان الأجدر به أن يفعل. اليوم، يتحدث بنسالم عن مثقفين لم يسمِّهِم وتركنا نطرح الأسئلة حول هوياتهم والغاية من وراء صمت ثم مفاجأة لم نعهدها فيه. فقط، كشف لنا الوزير أنه مستاء من حال بعض المثقفين الذين يراهم فارغين، يمتهنون الكلام، للكلام، في سياق مغربي يعدم «المفاهيم والممارسات العملية الخصيبة»، كما هي في سياقات ثقافية أخرى. لكن، من هو المثقف في رأي الوزير؟ هل هو، فقط، الذي عانى في اكتساب المعرفة؟ أم هو الذي يبصم وجوده في سياقات عامة رديئة؟ أم هو الذي ينزوي في برجه، بعيدا عن سوء الحال؟ أم هو الذي يبيع نفسه للحزب ورهانات الحزب وولاءات الحزب وتحالفات الحزب؟ ربما كان المثقف، في نظر حميش، هو الذي يستجيب لشرط «المعرفة القاهرة»، التي يعاني من أجل اكتسابها، أي تلك التي لا تكتمل إلا بشرط المعاناة والبؤس والفقر، أو لنقل تلك التي ترتبط بنفحات إيديولوجية لا ترى الصواب إلا في داخل التصور الإيديولوجي للأشياء، وما نأى عنه كان خاطئا، مرفوضا. أعجَب لمثقفينا، الوزراء منهم وغير الوزراء، المسيَّسين منهم وغير المسيسين، كيف أنهم يفصلون بين ثقافة الكتب وثقافة الموقف، بين ثقافة الواجب السياسي وثقافة الواجب الاجتماعي. في مغربنا، تركد المواقف في بركة الوضع الآسن، كما لو أن المثقف هو الذي يصدر كتابا ويوصي طلبته ومعارفه بشرائه (ليس الاطلاع عليه) ويلوذ بالصمت، ثم يولي وجهه شطر المشرق، أو يترفع عن شؤون أهله. هنا كل الفرق بين مثقف ومثقف، بين مثقف ال»هنا» ومثقف ال»هناك»، الذي تحدث حميش عنه في «المقال -الحسرة» عن المثقفين. هناك، يطبعون المشهد بكل شجاعة الحضور المعرفي وبكل قناعة الموقف، التي لا يخشون فيها لائما وهنا يتوارون خلف ظلالهم... أخشى أن تكون مناسبة «خرجة» حميش شخصية، ذاتية... أخشى أن يكون الداعي إليها خصامٌ تافه أو حديث لغريم أو نقد لعدو «ثقافي» أو دفعٌ لإساءة سياسية من باب «الواجب «السياسي». إذا كان الداعي من هذه الطبيعة، فعزاؤنا الصبر والترحم عن المثقف ولنؤنس أنفسنا، رغما عنا، بمثقفين يعرفون عمق الكلمة حين يدافعون عن «أمة يهودية» يعطونها كل الحق في اغتصاب الأرض العربية، ويدافعون عن حق إسرائيل في غطرستها، وينفون أن يكون حصار أهل غزة حصارا... لعلم مثقفينا، الذين «عانوا من أجل اكتساب المعرفة»، فهؤلاء المثقفين لا يختفون وراء التلميح!...