يبدو العنوان لأول وهلة دقيقا جدا يقصد الادوار التي يمكن أو التي يجب أن يلعبها المثقف في المجتمع الذي يوجد فيه ويعيش فيه. ومع ذلك، فالعنوان يحتمل كثيرا من التفكيك والتساؤل عن أي دور؟ وعن أي مثقف؟ وعن أية مرجعية فكرية ومعرفية مادام المثقف، كل مثقف، هو تعبير صريح ومباشر عن تقدير وتصور ومرجعية فكرية ومذهبية وايديولوجية وسياسية معينة ومحددة. هل يقصد بالدور وظيفة المثقف، ام مهماته ام إبداعه ام التزامه؟ وهل المثقف ذلك الذي يكتب ، أم ذلك الذي يكتب استشعارا لمرحلة وجوابا عن شروطها ومخاضاتها وتحولاتها؟ ام ذلك الذي يكتب نافيا عن التاريخ مخاضاته والتباساته بشهادات وردية رسمية؟ ام ذلك الذي يكتب ضد مسار وتقدم التاريخ مستبدلا الحقيقة والموضوعية بالايديولوجية والتعتيم؟ يجعل الاستاذ محمد سبيلا من المثقف، في مقاله «حول موت المثقف» المنشور بجريدة «أخبار اليوم» عدد 13، تعبيرا عضويا مرتبطا بمشروع سياسي وايديولوجي معين منخرط في التنظير له والدفاع عنه ، وهذه تاريخيا كانت إحدى وظائفه وأدواره الطبيعية وفي وجوده الطبيعي. انها، بالمقابل، ليست كل الدور وإلا سجن نفسه في قول سياسي لايتجدد كثيرا، او أنه يتجدد كثيرا وفق شروط ومقتضيات وقواعد الممكن السياسي. ان هذا الدور، يقول ايقاف ايليتش، لايلائم المثقف كثيرا، فهو كلما كان لايتجدد باستمرار جعل المثقف يستكين الى طروحاته وآرائه ومقولاته ولايزرع فيها الروح ولايعرضها للمقارعة والمماحكة والمبارزة فتتحول الى طروحات ومقولات رخوة غير متمنعة. ان المثقف يحتاج الى الهدوء، كما كان يقول دائما أندري جيد، وهذا الهدوء يساعد (المثقف) على النظر الى الاشياء وفق بنية كلية تؤهله لتجميع كل العناصر المتطور فيه، ولأن الممكن متاح ومتوفر في السياسة وفي القول السياسي، فإن الهدوء يتأجل كثيرا، بل وينتهك فيتحول الطرح المعرفي المفترض من أن يكون رصينا وهادئا الى رأي او وجهة نظر محكومة بحسابات سياسية وبغلاف زمني محدد ككل البيانات الصادرة عن الاحزاب او التصريحات الصادرة عن الاعضاء السياسيين. أي مثقف كان يقصد الاستاذ محمد عابد الجابري، وهو يعرفه لنا في رحاب الجامعة، بأنه ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات المقهورة والكادحة؟ بدون شك انه يقصد المثقف العضوي الذي نحتفظ له بتمثل مثقف السبعينات والثمانينات الذي تحضر أطروحاته وآراؤه في مناقشات ومرافعات الطلبة في الجامعات والملتقيات والفصائل الطلابية، ويتهجد في تأويلاته لمستويات وافرازات وشروط الصراع الطبقي ومداخل الثورة البروليتارية في جلسات النقاش المسطرية الطويلة في فروع ومقرات الاحزاب. ان الادوار اليوم اختلطت، وحتى المثقف اليوم التبست ماهيته، أو أن تمثلنا للمثقف بشرطه العضوي والمجتمعي الجماهيري حجب عنا الهويات الاخرى والادوار الاخرى للمثقف. ان المثقف عادة ينتعش في لحظات الالتباس والصراع، أولا لأنه يعيش مخاضات الالتباس والصراع، بكل تناقضاتها، ولأنه يكتب عنها خارج اكراهاتها، فهو يلاحظها ويفككها ليركبها من جديد، او كما يقول ذ. سبيلا فالمثقف الذي يفترض فيه انتاج تحليل فكري معمق (يجب عليه) ارجاع القضايا الساخنة، الآنية، اليومية الى جذورها البعيدة والى بنياتها الراسخة المؤطرة. إن المثقف ليس واحدا، ودوره ليس واحدا ومرجعيته ليست واحدة، ووسيلته ليست واحدة، وأفقه ليس واحدا. إن التدافع السياسي و الاجتماعي والذهني الذي نعيشه اليوم يجعل التعدد في المثقفي وفي الدوري وفي المرجعية وفي الوسيلة وفي الافق أمرا مشروعا تماما. فالذي يدافع اليوم عن دسترة الامازيغية ويستلهم الافق الحداثي الكوني لحق الانسان في التفكير والتعبير والتمتع بهويته، ويجعل من افق بلد واحد لكل افراده وتعبيراته، هو مثقف حداثي امازيغي. والذي يدافع اليوم عن أسلمة المجتمع جاعلا من الاصول الدينية ارضية للسياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والهوية افقا ومطلبا، هو مثقف سلفي اصولي. والذي يدافع عن الخطاب الرسمي للدولة جاعلا من مشاريعها و توصياتها ارضية وافقا، مفحما ومبطلا كل الطروحات والتصورات الاخرى هو مثقف مخزني دولتي. ان التدافع السياسي والاجتماعي والمعرفي والذهني الذي تحدثت عنه سابقا، ونتيجة التحولات الكبرى التي أفرزتها شرط الانتقال من خطاب المعانقة الى خطاب المهادنة، غيبت المثقف العفوي الذي تمثلناه عن خطاب الممانعة هذا. لقدت كلس حراكه وارتخى خطابه وتشخصت اعراضه، وامام الترتيبات الجديدة لتدافعات حقل السياسة، صار لزاما أن يكون من جديد. هكذا تقتضي طبيعة الاشياء، لقد اثبتت التجربة الكونية ان كل مدافعة مجردة بين المثقف الدولي والمثقف السلفي تنتج صدام النار، وان كل تدافع بين المثقف الدولتي والمثقف المدافع عن قضية عرقية تفرز عنفا وعنفا مضادا، وإن كل تواجه بين مثقف سلفي اصولي ومثقف يدافع عن حق عرفي، يذهب إلى اقصى التعصب والتطرف. إن الأول يتحرك وفق اجندة العقل الامني والاعلامي للدولة، والثاني يرسم مآلا يوطوبيا ومتفردا، بل ووحيدا، والثالث لا يقبل فكرة التنازل عن جزء من حقه الطبيعي، في الوجود والتعبير، وعلى طول مسافة العقل الامني والخلاص اليوطوبي، والتمتع الطبيعي، تختلف الافاق والوسائل والمرجعيات والادوار.... وكذلك ربما الانانيات. يتبع