المفكر أو المثقف، في رأي إدوارد سعيد، «شخصية يصعب التكهن بما سوف تقوم به في الحياة العامة، ويستحيل اختزالها في شعار محدد، أو في اتجاه حزبي معتَمد، أو في مذهب فكري جامد ثابت». إنه شخصية غير قابلة للتحكم في مواقفها وأفكارها وردود أفعالها، التي تنبني على بصيرة فكرية نشيطة وغير مهادنة. يُعتبر المفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، إحدى منارات الفكر النقدي في الثقافة العالمية. وقد وسمه الجرح الفلسطيني، في مرحلة مبكرة من حياة جَرَّبَ فيها مرارة الاقتلاع، بصرامة فكرية تناغمت مع قدر المنفي الذي التزم بتحويل المعرفة إلى أداة لتفكيك الخطابات المستبدة، التي تضفي على قناعاتها ومفاهيمها مظهر الحقيقة والبداهة القريبة من روح الأشياء. إن ما يوحي به الفكر الغربي، في كثير من نماذجه، من وداعة إنسانية، تُخفي منظورات مانوية وعنصرية للمجموعات البشرية، هو ما جعل من إدوارد سعيد هدفا للتفكيك المستمر، في كل كتاباته النقدية والتحليلية، بدءًا من عمله البحثي الكبير الموسوم ب«الاستشراق» ووصولا إلى دراسته النقدية بالغة الأهمية، الموسومة ب «الثقافة والأمبريالية». إضافة إلى أعمال وتأملات وسرود، كرستْ جميعها اسمَ إدوارد سعيد كواحد من بين كبار محللي الخطاب الثقافي الغربي، انطلاقا من خلفية فلسفية وأدبية شديدة العمق وبالغة التنوع، خلفية، موصولة، على نحو عميق، بهويته كفلسطيني، يعيش بجنسية أمريكية مستعارة، جُرحَ الانتماء إلى ثقافة عربية، تغالبُ الهزيمة، وتطلبُ نهضة لا يمكن أن تتحقق خارج قيم العلم والنقد والديمقراطية. لم يكن إدوارد سعيد، في رحلته الفكرية، حبيسَ مكتبه الأكاديمي، بل كثيرا ما كان يُلَبي، مِن موقعه كباحث وصاحب رأي، دعوةَ جامعات ومؤسسات إعلامية وثقافية مستقلة. وكان معيار الاستجابة لدعوة من الدعوات يستند عنده إلى درجة الاستقلالية، وفرص بعث رسائل نقدية، وإمكانيات التأثير في الرأي العام العالمي، من جانبه كمثقف ملتزم بقضايا الحرية والعدالة والحق والديمقراطية، التزاما قدريا جعله يواجه، في مناسبات كثيرة، أنواعا من الحصار والتعسف، من قبل جماعات الضغط الصهيونية، التي تنظر إليه كفلسطيني مدان على نحو مسبق. ويعتبر كتاب «المثقف والسلطة»، الذي صدرعن دار رؤية(2006)، في ترجمة للدكتور محمد عناني، واحدا من الأعمال المهمة، التي ألفها إدوارد سعيد في هذا السياق النضالي، الذي جعله يلبي دعوة هيئة الإذاعة البريطانية(بي بي سي)، للمساهمة في سلسلة محاضراتها الإذاعية، المعروفة باسم «محاضرات ريث»، وكانت قد شاركت فيها من قبل نخبةٌ من المثقفين العالميين، يُكِنُّ إدوارد سعيد لبعضهم احتراما خاصا. ويذكر سعيد أن هيئة الإذاعة ما إن أعلنتْ نبأ موعد إلقائه للمحاضرات، في أواخر1992، حتى «ارتفعتْ أصوات جوقة دائبة الصراخ» تنتقد ال «بي بي سي» بسبب هذا الاختيار: «وكانت تهمة هذه الأصوات أنني من المناضلين النشطين في سبيل الحقوق الفلسطينية، وهو ما يسلبني، في رأي تلك الجوقة، الحق في الحديث من أي منبر يتمتع بالرزانة والاحترام»(ص18). يتكون كتاب «المثقف والسلطة» من ستة فصول، يقدم فيها إدوارد سعيد عرضا تحليليا لمفهوم المثقف العالمي، الذي لا يتقيد ببرنامج حزبي، والذي يتجاوز كل يقينية مستمدة من خلفيته ولغته وقوميته، تحول دون معرفة «حقيقة الآخرين». إنه مفهوم يدفع باتجاه التمسك ب»معيار واحد للسلوك البشري، في إطار ما يسمى بالسياسات الخارجية والاجتماعية»(ص23)، وهو ما يستدعي إدانة الأعمال العدوانية، المرتكبة دونما وجه حق، بأي جغرافية كانت، دونما مراعاة لحدود المشاعر القومية. واستحضار هذا المفهوم للمثقف، الذي ستكتمل صورته بالتدريج، يجعل إدوارد سعيد يحاور تصورات أخرى رائجة، وأصبح لها تاريخ في التأملات الثقافية الغربية، سواء في الفلسفة أو ضمن علم الاجتماع أو الأدب. وفي هذا السياق، تستدعي تأملات إدوارد سعيد تصورات فوكو وغرامشي وجوليان بندا وسارتر وفلوبير وأورويل وماثيو أرنولد وتشومسكي وأدورنو وريجيس دوبري وريتشارد روكسون ومثقفين آخرين. ولا يخرج استدعاء إدوارد سعيد لتصورات هؤلاء المفكرين والكتاب والباحثين عن صرامة المنهج التفكيكي، الذي يتجه نحو بناء مفهوم نقدي للمثقف، خارج ميولات هيئات الضغط التي تدفع المثقف إلى تلوين الآراء بحسب الولاءات القومية والعرقية والمؤسساتية والتجارية الضيقة. فالمفكر أو المثقف، في رأي إدوارد سعيد، «شخصية يصعب التكهن بما سوف تقوم به في الحياة العامة، ويستحيل اختزالها في شعار محدد، أو في اتجاه حزبي معتَمد، أو في مذهب فكري جامد ثابت»(ص21). إنه شخصية غير قابلة للتحكم في مواقفها وأفكارها وردود أفعالها، التي تنبني على بصيرة فكرية نشيطة وغير مهادنة. شخصية لا تتصرف إلا بناء على ما تمليه عليها رؤيتها الخاصة للوقائع، خارج كل ولاء يستبعد ما تراه حقيقة وسدادا، بناء على بحث واستقصاء يستنطق، دونما هوادة، التاريخ والوثائق والنصوص والشهادات، والروايات والتفاصيل التي تتوارى خلفها الحقائق. ولعله الالتزام الذي يجعل المفكر يجسد صورة «المنفي والهامشي والهاوي» الذي يؤلف نصوصا «تحاول أن تنطق بالصدق في وجه السلطة»، التي تجسدها الحكومات والشركات وأجهزة الإعلام، التي تسد المنافذ أمام كل تغيير اجتماعي وسياسي ممكن. ويحذر إدوارد سعيد من احتجاب صورة المثقف وراء شخصية المهني، ذلك التقني الكفء الذي «ينتمي إلى طبقة ويمارس عمله وحسب»، ويؤكد، في المقابل، أن «المثقف فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع». إنه شخص يلتزم بأن يطرح أسئلة محرجة، ويواجه «ما يجري مجرى الصواب أو يتخذ شكل الجمود المذهبي»، شخص «يصعب على الحكومات والشركات أن تستقطبه، وأن يكون مبرر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل أو الإخفاء»(ص44/45). ويذهب إدوارد سعيد إلى التنويه بدور أدباء وفنانين، أمثال مانزوني أو بيكاسو أو نيرودا، «جسدوا الخبرة التاريخية لشعبهم في أعمال فنية جمالية، وهي التي أصبحنا نعترف بأنها روائع فنية عظمى»(ص89). روائع جسدت روح معاناة الشعوب، التي تُلقى على عاتق المثقفين، في رأي إدوارد سعيد، مهمة إضفاء الطابع العالمي الصريح عليها، لتساهم في توسيع الأبعاد الإنسانية لما عاناه جنس معين أو ما عانته أمة معينة، ومن ثم يساهم المثقف في الربط بين تلك الخبرة الخاصة وبين معاناة الآخرين. إن المدار الأساسي، في حياة المثقف، في رأي إدوارد سعيد، هو الحرية والمعرفة. فالولاء لهما هو ما يدفعه إلى اختيار دور المنفي الهامشي، الذي يتلذذ بالتشكيك في الروايات الرسمية، وبلبلة الآراء السائدة والحقائق المكرسة بسلطة السياسة والإعلام ونفوذ الشركات الكبرى. اختيار يجعل المثقف في موقف المنشق، المنفي، المبعَد خارج مزايا السلطة ومظاهر التكريم. وربما مال المثقف المنفي، كما يعتقد إدوارد سعيد، إلى الإحساس بأن «فكرة الشقاء تُسعدهُ، حتى إن الاستياء الذي يكاد يشبه عسر الهضم، قد يصبح لونا من ألوان سوء الطبع أو انحراف المزاج، الذي يتحول إلى أسلوب للتفكير، بل إلى مأوى جديد له وإن كان مؤقتا»(ص101).