ليست الحركة الإسلامية المغربية وحدها هي التي فشلت في بلورة مرجعية فكرية ذاتية، بل هذا مشكل جل الحركات الإسلامية في الوطن العربي، والتي ارتبطت في عمومها بخطوط فكرية ممتدة في التاريخ السحيق، أي الماضي، مع بروز ملفت لحركة الإخوان المسلمون على صعيد الحركة والتنظيم والإشعاع الدولي. كما لم تستطع الحركة الشيوعية العربية أيضا، صياغة مرجعية فكرية ذاتية متشبعة بمفردات المجال التداولي العربي، عقيدة ولغة ومعرفة، باعتبار أن المرجعية الفكرية هي الإطار النظري الذي يحدد القيم والمبادئ التي تحدد مسار التجربة، أي تجربة، وترسم آفاقها الإنسانية العليا، بمدلول عملي حي في كل وقت، لتجنب جمود النظرية أو الإطار الفكري للعمل. فمرجعية الشيوعيين العرب، والمغاربة من ضمنهم مثلا، لم تكد تخرج عن الاكتشافات النظرية والتحليلية التي ارتبطت بماركس وانجلز منذ أواسط القرن التاسع عشر، مع استلهام النموذج التطبيقي اللينيني على الأرض الروسية، هذا التطبيق الذي يعتبره كثير من الشيوعيين العرب تطبيقا خلاقا! ومن غير نكران القيمة النظرية والفكرية لمجمل الإرث الماركسي، إلا أن تعامل الشيوعيين العرب مع هذا الإرث كإطار دوغمائي، عوض النظر إليه كآليات تحليلية تنسب أكثر إلى حقل الاجتماع والتاريخ، أو على الأقل، كإطار "علمي" لحل كثير من الإشكالات، حول الإرث الماركسي إلى مرجعية فكرية جامدة ومستوردة، وبعيدة عن مفردات المجال التداولي العربي، فافتقد الشيوعيون العرب كل إمكانياتهم الإبداعية والتداولية، وتعلقوا بوهم مستورد مازالوا يعيشون آثاره السلبية على تجربتهم بكل مستوياتها، لعل من أبرزها افتقاد مرجعية تداولية وعجزهم عن إنتاج هوية اجتماعية ومعرفية. فالشيوعيون العرب والسلفيون العرب جميعا يعيشون حالات انسداد مرجعي؛ إذ لما جمدوا على نصوصهم المرجعية، كانت دينية أو بشرية، حولوها إلى متحف التاريخ، وضيعوا القيم الثورية والإنتاجية التي تزخر بها، في إطار المنهج والقوانين والفرضيات التي تحكم كل واقع. فإذا كانت النصوص القرآنية تحتفي بالإنسان وبقيمته، فإن المنطق السلفي في التعامل مع القرآن الكريم أفقده كل الأبعاد الإنسانية. وإذا كانت النصوص الماركسية اللينينية تقدم لنا مداخل محورية في علم التحكم الواعي بالعمليات الاجتماعية، فإن المنطق الدوغمائي للشيوعيين العرب حولها ببساطة إلى عقيدة إلحاد مضادة لفطرة الناس ومستهزئة بتواضعاتهم الثقافية والاجتماعية في العالم العربي. إن تركيزنا على أزمة المرجعية في الحركة الإسلامية، ليس إلا تمثيلا نموذجيا، بنظرنا، لفصائل كثيرة في واقعنا العربي. والحديث عن المرجعية ليس بالضرورة حديثا عن مفردات محددة تلزم أفرادا أو جماعة، بل هي إطار عام مفتوح ينبني على الجدل ويتطور باستمرار ويمارس النقد على الآليات والمضامين وأشكال الترابط بينها؛ أي تطور العناصر الملتحمة بالمفهوم الأصلي، وفق أطروحة المفكر الماركسي هربرت ماركوز في الفصل الأول من كتابه "الماركسية السوفياتية". فنظرية المعرفة، وكما أكد ذلك كارل بوبر معرضة للتناقض باستمرار، لأن المعرفة هي باستمرار شاسعة ونافذة، وتفاصيلها لا حصر لها؛ فجهلنا ليست له حدود، وفي كل جزئية جديدة من جزئيات المعرفة نتعرف عليها نكتشف أكثر فأكثر ترامي أطراف جهلنا، لذا من المستحيل حصر المرجعية في نسق فكري ثابت ووحيد. مرجعية المشرق وأثرها المغرب أما إذا نظرنا إلى مسألة المرجعية في الحركة الإسلامية المغربية، فنجدها متأثرة إلى أبعد الحدود بالحركة الإسلامية المشرقية خصوصا في مصر والشام والنموذج الوهابي في الحجاز، مع ضرورة التنبيه إلى أن تناول موضوع المرجعية في الفضاء الشيعي يحتاج إلى مقاربة خاصة ستكون موضوع مقالة لاحقة بحول الله. فعلى المستوى العام بقيت الحركة الإسلامية المغربية تقلد الأداء الفكري والنظري والتنظيمي، وأشكال الانجاز للحركات الإسلامية المشرقية، على مستوى التربية والتكوين، أو التأطير التنظيمي، أو العمل الاجتماعي، أو الفعل السياسي... فعلى المستوى الفكري، لم تستطع الحركة الإسلامية المغربية، كغيرها من الحركات الإسلامية التقليدية، أن تتحول إلى ورش عمل وحركة نامية متجددة، تشارك فيها عقول مختلفة وأعمار متفاوتة، تبحث وتتجاوز وتتجادل. لم يكن الأمر كذلك، بل داس الشخص على الفكرة، وتكرست شخصية الزعيم الفرد، المؤسس التاريخي، صاحب السبق والفضل، عمرا وانتماءا وإكراما وبذلا، أو مجموعة من الزعامات المحدودة، تحتل كل الواجهات وتسيطر على كل المنافذ. هذا الشخص أو الزعيم الحركي الأوحد في حد ذاته، لم يكن قيمة فكرية معتبرة، بل قيمة شخصية وعاطفية وربما نسبية أو مالية ...! في بعض الأحيان. شخص لم يستطع بلورة أفكار أو مقولات قابلة للجدل والتحاور، بل هو ذاته ظل وفيا لمرجعية غير محلية ومستوردة من هنا وهناك. فقد تم التعاطي مع الأفكار القادمة من الشرق كنصوص شبه مقدسة، قديما أو حديثا، مثل كتب ابن تيمية أو كتب سيد قطب، الأولى للتأطير المذهبي الفقهي، والثانية للتأطير الحركي والتربوي التنظيمي، مع البون الشاسع بين النموذجين، ولكن المتلقي الحركي المغربي لم تتح له فرصة النقد أو مجرد التفكير الفردي في هكذا تناقض! فالكتب الإخوانية، (نسبة إلى الإخوان المسلمون) اكتسحت في وقت من تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، الساحة، خاصة كتب سيد قطب، وسعيد حوى؛ مع ما تحمله من خصوصيات مرتبطة بأوضاع الإخوان في مصر وسوريا، ولكن الحركيين المغاربة أخذوها منزوعة عن سياقها، فبحثوا لها عن سياق مغربي، وإن لم يجدوه يعملون على إيجاده. كتابات سيد قطب وسعيد حوى وإذا أخذنا نموذجا لذلك كتاب الشهيد "سيد قطب" رحمه الله، معالم في الطريق، فلا أحد من الحركيين المغاربة كان ينتبه إلى أن هذا الكتاب يشكل انعطافا خطيرا في الفكر الحركي الإسلامي، بل يعتبر خروجا حتى على الخطوط الفكرية المبدعة التي رسمها حسن البنا، (أنظر رسالته: مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي)، بل هذا الكتاب كان مقدمة نظرية تبريرية لحركات العنف التي ستحرق نارها أولا الإخوان، قبل الامتداد إلى مناطق أخرى من العالم العربي الإسلامي. فسيد قطب هو الذي رسخ ثنائية الإسلام والجاهلية في وعي الإسلاميين، فتحولت إلى مقولة مرجعية مكبلة لكل تفكير حر وتركيبي. وهذا عكس ما نجده في كتب الإمام الشهيد حسن البنا. وفكر الشهيد سيد قطب، رحمه الله، هو الذي سيؤسس لنظرية "الاقتحام" عند تنظيم الجهاد كما يشرحها محمد عبد السلام فرج في كراسته البسيطة "الفريضة الغائبة"، وستصبح نظرية في العمل الإسلامي لكثير من الجماعات العنيفة. أما كتب سعيد حوى، من مثل "المدخل لدعوة الإخوان المسلمين"، أو "دروس في العمل الإسلامي"، فتجسد الازدواجية الفكرية والحركية التي بدأت تعرفها الجماعة، مع تزمت نظري وفكري قطع كل صلاته مع فكر حسن البنا المشبع بسعة النفس وتجربته الاجتماعية المفتوحة، والاختلاط الإيجابي مع الناس، بعيدا عن استعلائية النموذج الفكري لسيد قطب، وطابعه الاصطفائي والطليعي المعزول والمسجون في نفسيته الاضطهادية (راجع سيكولوجية الإنسان المقهور للدكتور مصطفى حجازي). وتأثرت التجربة المغربية أيضا ، وإن بشكل غير مباشر بالمرجعية الفكرية لحزب التحرير الإسلامي، الذي يتخذ من كتاب "الدوسيه" مانيفستو الجماعة، وهو يميل إلى نموذج أن دولة الإسلام تقوم عن طريق الثقة ب"أفكار الإسلام"، أي الإسلام الذي يعرفه الحزب ويحدد مضامينه ويرسم حدوده! ، وقد خاض الحزب مجموعات من المغامرات الدعوية لتحقيق نموذجه الوهمي، لعل أغربها طلبه من العقيد القذافي تسليمه الحكم لإعلان الخلافة سنة 1978 م، ولكن بساطة هذا النموذج واختزاليته بل وسطحيته حولته إلى أثر بعد عين، إلا من بروز باهت هنا وهناك. القضايا الاجتماعية والسياسية ولم يتجسد غياب المرجعية الفكرية الذاتية عند الحركة الإسلامية المغربية في الإطار النظري العام وحسب، بل حتى في القضايا الاجتماعية الأكثر ارتباطا بالواقع مثل قضية المرأة؛ فقد لعبت المؤلفات الحركية التونسية والسودانية دورا كبيرا في تأطير التفكير الحركي المغربي بخصوص المسألة النسائية، خصوصا كتاب الغنوشي حول "المرأة بين القرآن وواقع المسلمين"، وكتب الدكتور أحمد الأبيض، "فلسفة الزي الإسلامي"، و"الاستلاب النسائي"، و"من أجل حياة جنسية إنسانية"، وكتب الترابي ومقالاته حول المرأة، وكتاب الشيخ الغزالي "المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة". كما اعتبر كتاب الأستاذ عبد الحليم أبو شقة "تحرير المرأة في عصر الرسالة" من ستة مجلدات، موسوعة موثقة ومعتمدة بشكل أساس عند التيار الحركي الإسلامي بالمغرب، وربما هذا الكتاب هو الذي لعب دورا كبيرا في التصدي للفكر السلفي في قضايا المرأة والمجتمع، ولكن لا نكاد نجد في هذا المجال مساهمات الفكر المغربي، إلا من كتابات صحفية لبعض السياسيين تفتقد إلى الابتكار والجدة من داخل الفضاء المغربي، أو محاضرات بعض المؤطرين الإيديولوجيين والتي لم تخرج عن تكرار مقولات الغنوشي والترابي. والأمر نفسه يقال في قضايا المشاركة السياسية للحركة الإسلامية المغربية؛ فأغلب المراجع التي اعتمدت زمن التداول حول هذا الموضوع كانت تقيس الواقع المغربي على الواقع في السودان أو تونس أو تركيا أو ... ولا نجد مجهودات مبتكرة من داخل الفضاء المغربي الخاص. ولعل ورقة الأستاذ صلاح الصاوي في المشاركة السياسية كانت الأبرز، وكتاب محمود الغضبان حول الحركة الإسلامية التركية، كانت عناصر إلهام للتجربة الإسلامية المغربية لإحداث تغييرات جذرية في آليات العمل ومضامين بعض الأفكار. الولع بفقهاء الشرق أما في الجانب الفقهي المذهبي، فإضافة إلى بروز القنوات الدينية، وشيوخ الفتوى في الفضائيات، فالحركة الإسلامية المغربية، كانت دائما مولعة بسؤال شيوخ الشرق وإظهار التلمذة والنجابة على أيديهم، وليست فتوى الدكتور يوسف القرضاوي هي الأولى أو الأخيرة في الموضوع مع ما تميز به الخطاب الفكري للشيخ القرضاوي من سعة وطاقة انفتاحية كبيرة، وعدم الارتهان الى سياقات عصبية أو جغرافية أو سياسية مغلقة. وأكاد أجزم أن الممارسة الطقوسية لأغلب رواد الحركات الإسلامية موزعة بين كل المذاهب الفقهية مع سطوة بارزة للمذهب الحنبلي، رغم المغازلات الكلامية وحسن النية المذهبي الذي نسمعه هنا وهناك عن الوفاء للمذهب المالكي، لكنه قول من دون عمل. فالحركة الإسلامية المغربية في عمومها، ومن دون وعي منها، كانت منتوجا مرجعيا وفكريا شرقيا، ولم تستطع الاستفادة من الإبداع المغربي، فقها وفكرا، بل حتى في البرامج التربوية لأغلب هذه الحركات لا تكاد تجد إحالة على نموذج مغربي في الفكر أو التربية، ولا تكاد تجد حديثا عن تاريخ المغرب، وظروف تشكله عمرانا واجتماعا، في حين تجد الحركيين المغاربة يعرفون أشد التفاصيل عن المقاهي التي كان يرتادها حسن البنا داعيا، والجبال الوعرة التي كان يسلكها المقاتلون الأفغان في حربهم مع الاتحاد السوفياتي، أو المحافظات السودانية التي يترشح فيها إخوان السودان، بل كان الحركيون إلى ما قبل سنوات، يعرفون تفاصيل عن الدولة في السودان، وموازنتها وديونها، وميزانها التجاري منذ صعود "الإخوان" عفوا، جماعة الضباط الإسلاميين إلى الحكم في تحالف مضحك مع حسن الترابي!بل كان رياضيو الاخوان في المغرب يتعاطفون مع فريق المريخ السوداني لكرة القدم،أكثر من تعاطفهم مع فريقي الرجاء البيضاوي أو الوداد البيضاوي أو أي فريق مغربي في مدنهم. رياح مشرقية جديدة وإلى اليوم لم تفكر الحركة الإسلامية المغربية في بلورة مرجعية فكرية مغربية بل بدأت تهب على المغرب رياح مرجعية مشرقية جديدة بعد كساد الأفكار القديمة أو تجاوزها، مرجعيات جديدة بأشكال ومساحيق حديثة وجذابة، مرة تحت إسم "صناع الحياة"، وأخرى "البرمجة اللغوية العصبية"، مما عرض جمهور الصحوة الإسلامية الثانية لحالة اختطاف واستلاب جديد، وضيع على الفكر المغربي فرصة لتأطير قطاع واسع من المواطنين، لصالح أجندة إقليمية ودولية، سيكون ثمنها غاليا على البلد، في غياب أية مبادرات فكرية مغربية، ناجعة، بعمق ديني، وبحس نقدي إيجابي، وإلا ستتعرض طاقات الشباب المغربي للهدر والضياع، وستوفر منتوجا جاهزا لكل متسوق ديني أجنبي من الخطباء والمفتين والدعاة الجدد وجماعات العنف. *عن موقع الإسلاميون