حينما أصدرت الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري القرارات والتقارير المتعلقة باحترام القناة الثانية مبدأَ التعدد من عدمه، وحينما دعت إلى تبني القناتين المعاييرَ المعتمَدة لتكريس هذا التعدد، وما وازى ذلك من نقاش حيوي، اعتقد البعض -بكل تلقائية- أن النقاش السمعي -البصري المغربي يسير نحو التطور ونحو النضج وأن المتعهدين القدامى والجدد سينخرطون في سيرورة التطور في المجال وسيَعون أنهم يدشنون لعهد جديد في السمعي -البصري الوطني اسمه عهد التحرير الحر الذي تؤطره سياقات سياسية دقيقة... وحينما نأت «الهاكا» بنفسها عن مستنقع ضبط الصحافة المكتوبة وفتحت النقاش الحيوي بين الاختلاف بين السمعي -البصري والإعلام المكتوب، فهم البعض أن مسؤولي السمعي -البصري المغربي يدافعون عن مبدأ الحرية ويرفضون الوصاية على قطاع يعلن في الأصل شعار الحرية والاستقلالية. وحينما منحت هيأة الاتصال السمعي -البصري تراخيصَ محطات إذاعية جديدة لأسماءَ لم تمُرَّ عبر المسارات المهنية المفترَضة للإدارة والإشراف على مولود سمعي جديد يؤسِّس لمرحلة جديدة، كان الاعتقاد السائد والرائج أن الدينامية الجديدة في القطاع السمعي -البصري تفترض -بشكل حيوي- ضخَّ دماء جديدة في المجال ومحاولة منح الفرصة لإنتاج فعل سمعي -بصري وخلق أسماء جديدة، بعيدا عن تركة وزارة الداخلية والإعلام وزمن الوصاية والتعليمات، على أمل تكريس التحرير الذي يعني -بشكل من الأشكال- الحريةَ والتحرر من الهيمنة والاحتكار، الذي ميّز الفضاء السمعي -البصري. حينما ينظر المهتم في كل هذه المسارات، يتذكر أن للأمر علاقةً سببية بإجراءات سابقة، ارتبطت بسَنّ قانون لإلغاء احتكار الدولة لوسائل الإعلام وبتأسيس الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري، التي أشرفت على قانون السمعي البصري 03-77، الذي أسس للانطلاقة، قبل أن تنخرط الهيأة في مسارات نظرية وفي تجاربَ تهمُّ منحَ الرخص وتدبير تعاطي المتعهدين مع دفتر التحملات وضبط السمعي البصري... حينما يتذكر المتتبع لمسار الإعلام السمعي -البصري كل هذه المسارات الأساسية ويسمع أن محطة إذاعية سمحت لضيف مُعيَّن بأن يرسل خطابا مزعجا متعلقا برغبته في أن «يرأس الجمهورية المغربية»، وحينما أصبحت هناك محطة إذاعية متخصصة في إلقاء وتصدير الكلام النابي، على الرغم من الإعذارات والإنذارات، نفهم أن شيئا ما غير سليم في الأمر... وحينما ننظر إلى حصيلة ما قدمته هذه المحطات الإذاعية، في علاقة بطبيعة الرخصة الممنوحة، نصاب حقاً، بالصدمة !... حينما ندقق في الأمر، نجد أنفسنا في تبرير هذه الإنزلاقات، أمام الجدلية الأزلية بين الحرية والمسؤولية.. فإذا كانت المادة التاسعة من قانون السمعي -البصري تُشدِّد على أهمية الحرية وتقر بضرورة توفير شروط الحرية في التصور والإعداد، فإن هذه الحرية لا يجب أن تُمارَس خارج احترام دفتر التحملات، الذي ينص على الالتزام بالقوانين المعتمَدة في البلد وينص على الالتزام باحترام ثوابت الأمة وبنود الدستور، التي لا تبيح، بأي شكل من الأشكال، أن تُمَسّ المؤسسة الملكية. قد يقول قائل إن المحطة الإذاعية لا تتحمل المسؤولية الكاملة في تفادي هذا المشكل، على اعتبار أن ما جاء على لسان الضيف كان مباشرا، ولهذا الادعاء رد جميل وواضح، هو أن المادة السادسة من قانون السمعي -البصري تشدد على ضرورة التحكم في شروط البث، بما يحفظ التوازنَ وعدمَ خرق القانون أو دفتر التحملات، أما إذا كان صحافيون يتحكمون في البث و«يختزلون» الحرية في إرسال كلام نابٍ، دون احترام لطبيعة وعُمر المتلقي المفترَض، ودون احترام للقانون، فهذا نقاش آخر يعبِّر عن حالة مرضية !... في نقطة التحكم، تُطرَح جدلية أخرى مرتبطة بالتكوين والحرفة، فالمتعهد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار في منح السلطة الخطيرة المسماة «البث المباشر»، مدى استيعاب الصحافي للقوانين التي تؤطر مجال عمله، والتي يمكن أن تتأتى إما عبر التكوين الحقيقي أو عبر التّمرُّس، أما إذا غاب الأمران -وهذا شائع في محطاتنا- فلا يمكن إلا أن ننتظر كثيرا من المشاكل والمآزق في القادم من الأيام، وهو ما يهدد مستقبل السمعي -البصري المغربي، إذ إن فشل التعاطي مع البث المباشر الإذاعي قد يستغله البعض لترويج طرح خطير، مفاده أن المتعهدين الخواص ليسوا على مستوى من النضج الإعلامي والسياسي حتى نمنحهم سلطة «المباشِر» على التلفزيون مستقبلا...