لم يكتب لرجل الدولة عبد الرحمان اليوسفي أن يبر بعهد قطعه على نفسه، عندما كان وزيرا أول. فقد التفت ذات مساء إلى بعض أفراد أسرة المقاوم أحمد زياد الذين جاءهم معزيا في وفاته، وصرح بما يفيد أن تاريخ المقاومة يحتاج إلى إعادة كتابة وتسجيل وقائع، إنصافا لذاكرة الشهداء ووعي الأجيال اللاحقة، ذلك أنه غادر منصب الوزير الأول. ولم يبق له سوى أن ينصف التاريخ من بين ثنايا ما عاشه من تجارب وتحديات، محبطة أحيانا، وتدفع إلى المزيد من الثقة في قدرات الإنسان على التحدي أحايين أخرى.المحامي اليوسفي القادم من طنجة لم يسحره شيء أكثر من التأمل في عمق التاريخ الذي يلون الأشياء والأزمان على قدر سعة الحلم أو ضيق الأفق. عاش المنفى والألم وحزن فراق الأحبة المناضلين، لكنه ظل متمسكا دائما بخيوط النور المتدلية في نهاية النفق. لذلك فإن تجربته تظل بمثابة مرآة تعكس أنماط الصراع والتفاعل التي عرفها المغرب في حقبته الحديثة، والمتواصلة على ضفاف أخرى، أين منها ضفتا المحيط الأطلسي والبحر المتوسط التي كان يشرئب منها اليوسفي ليكتب فصول تجربته، غير المنفصلة عن الواقع الوطني في تعقيداته وتشعباته وطموحاته. ابن طنجة وكما كان ولا يزال استثناء في مساره. لعله سيكون كذلك في اختراق القاعدة. أي أن يكتب عما يعرف وما لا يعرف من أسرار ودهاليز. فهو رجل كلمة. أكانت منضبطة إلى روح واجتهادات القانون في عالم المحاماة، أو سابحة في أجواء الصحافة والفكر. فقد عاش محنة الكلمة التي تفتح أبواب الزنازن، وتلك التي تفتح شراع الأمل. غير أن المحامي الذي سيصبح صحفيا. والصحفي الذي سيتدثر دائما بعباءة المحامي سيقودانه إلى عالم رحب عنوانه فضاءات رجالات الدولة. الإرث التقيل حين قدم من طنجة إلى الدارالبيضاء، كان يحمل معه إرثا ثقيلا، وقبل أن يكمل عقده الرابع ليواجه المعركة الأخرى غير المتوقفة، على طريق بناء الاستقلال كان يتمرس في صفوف المقاومة وخبر حزب الاستقلال عن كثب. قبل أن ينعطف ورفاقه، المهدي بن بركة وعبد الله ابراهيم والمحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد يسارا لتشكيل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حين أصبح التعايش صعبا بين تيارات راديكالية وأخرى محافظة تحت خيمة حزب علال الفاسي. سيعاين من موقعه كرئيس تحرير لجريدة «التحرير» إلى جانب مديرها الفقيه محمد البصري جوانب كبرى من تداعيات الصراع الذي انفتح على المجهول، وبدأ يعصف بالأخضر واليابس من الطموحات والنظريات. مؤامرة من هنا وأخرى من هناك، والقاسم المشترك بينها عراك لا يفتر حول الاستئثار بالسلطة، بين من يريدها على قياس تجارب راديكالية كانت تلقي بظلالها على المرحلة. وبين من يريدها احتكارا مطلقا لغير الموالين. ففي المغرب وحده لم يتأت لرفاق الكفاح ضمن فصائل الحركة الوطنية أن يبقوا وحدهم على سطح قيادة السفينة. ستكون التجربة الجزائرية أكثر إغراء. طالما أن جبهة التحرير الجزائرية بشقيها العسكري والمدني فرضت النموذج الذي أرادته في حكم البلاد. ولم يكن صدفة أن الجزائر نفسها هي من سارعت إلى احتضان معارضي النظام المغربي في تلك المرحلة. وكان في مقدمتهم الفقيه محمد البصري والمهدي بن بركة ورجال من المقاومة وجبهة التحرير. غير أن اليوسفي سيختار طريقا أقل صداما. فقد كان طموحا وواقعيا في الآن ذاته. وقبل أن تصبح ملفات حقوق الإنسان تقليعة عصرية، انكب على المرافعة في القضايا ذات الارتباط بهذه الملفات، إذ جمع بين حدس المحامي ورجل الصحافة والفكر والانفتاح. وإن كان فعل ذلك بمرونة تجذب تقدير خصومه قبل مناصريه. لقد شحد قلمه في الدفاع عن قضايا مبدئية، لكنه حين كان يقف وراء القضبان في ملفات تطال حرية الصحافة أو ما يعرف بالمساس بالأمن العام، كان يجد رفاقا أمثال عبد الرحيم بوعبيد في الصفوف الأمامية للدفاع عنه، لدى اعتقاله عام 1963 أو عند مواجهة محاكمة مراكش غيابيا في مطلع سبعينيات القرن الماضي. لم تخل مرافعة المحامي عبد الرحمان اليوسفي أمام محكمة الجنايات الفرنسية في قضية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة من استحضار “الموعد السياسي” الذي ذهب إليه ولم يعثر له بعد ذلك على أثر. فقد كان ثمة موعد آخر حضره اليوسفي إلى جانب بعض رفاقه في الحزب، حين دعاهم الملك الراحل الحسن الثاني إلى موعد غاب عنه بن بركة. وقتها سأل الملك عن سر ذلك الغياب. فجاءه الرد من اليوسفي وليس غيره بأن المهدي سيكون عند موعده مع التاريخ، في إشارة إلى لحظة انفراج لم تكتمل. وربما غاب عنه أن ذلك الموعد لن يأتي في حياة المهدي أبدا. بل بعد أزيد من ثلاثة عقود على تغييبه سيصبح محاميه وزيرا أول قبل أقل من عام ونصف العام على رحيل الحسن الثاني نفسه. «الموعد السياسي» كانت الكلمة التي تساءل المحامي اليوسفي عن معناها ودلالتها، وهو يقلب في صفحات محاكمة غاب عنها المتورطون الحقيقيون. وانتهت في جولتها الثانية إلى إدانة الجنرال محمد أوفقير بالسجن المؤبد. كما قضت بالسجن سنوات متفرقة على أشخاص فرنسيين شكلوا أداة تصفية المعارض بن بركة، من دون العثور على جثمانه. بسبب معايشته وقائع الملف، سيختار اليوسفي الإقامة في المنفى سنوات طويلة، سيصدح بصوت الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي بعد تأسيسه. وستكون له صولاته في الدفاع عن قضايا حقوقية في أوربا، بحكم أنه شغل مهمة الكاتب العام المساعد لاتحاد المحامين العرب. وكان حضوره قويا في الدفاع عن معتقلين عرب في السجون الأوربية ارتبطوا بنصرة القضية الفلسطينية. حكم غيابي بيد أن التزامه في إطار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيجلب عليه المزيد من المتاعب، ومن ذلك صدور حكم غيابي ضده في محاكمة مراكش لعام 1971، التي طالت نشطاء الحزب، وكان من بينهم الحبيب الفرقاني والفقيه محمد البصري وأحمد بنجلون وسعيد نونعيلات ومحمد اليازغي وعبد الفتاح سباطة ومحمد بنونة وغيرهم. وفيما حظي اليازغي بالحكم بالبراءة قضت المحكمة ذاتها بفصل ملف عبد الرحمان اليوسفي والمهدي العلوي، على أساس المتابعة في قضايا أخرى. لم يثنه ذلك عن المضي في الاختيار الذي رسمه لنفسه، ثم لحزبه لاحقا، الواقعية في مواجهة الراديكالية. والانفتاح في مواجهة الانغلاق. ومع أنه عاش طويلا في المنفى وتنقل بين العواصم، فإن رؤيته لموازين الصراع وآلياته ظلت محكومة بالضربات الصغيرة التي تفتح الهوة وسط جدار من حديد، فقد اقتبس من بنبركة اقدامه وجرأته ومن بوعبيد مرونته وسعة صدره ومن الفقيه البصري شتات مغامرات وضعها اليوسفي يوما خلفه وتقدم خطوات إلى الأمام، فقد كان الوحيد من بين القيادات المتعاقبة على حزب المهدي بن بركة الذي صاغ لنفسه وتنظيمه إطارا آخر يختلف كليا عما عرفه الحزب. فقد كان يؤمن بأن الفرص الضائعة التي تصنع التاريخ في تجلياته وكبواته، لا ينبغي أن تبقى ضائعة دائما. لذلك كان جريئا في إعادة عقارب الساعة إلى وفاق تاريخي، لم يحدث في الأيام الأولى لحكم الحسن الثاني، لكنه فرض سطوته في أيامه الأخيرة. يوم التقت إرادتان ورؤيتان ومساران عند نقطة واحدة. قطار التناوب وكما أن الراحل الحسن الثاني لم يطلب إلى رفاق بن بركة بعد غيابه أن يشاركوه في قيادة السفينة إلا بعد أن أصبح لها ربان اسمه عبد الرحمن اليوسفي، فإن هذا الأخير لم يطلب إلى رفاقه أن يركبوا القطار إلا بعد أن أدرك أن الانتظار لا يمكن أن يشكل سياسة إلى الأبد. لكنه مارس في غضون ذلك ضغوطا نفسية وثقافية وسياسية من موقع الإقناع والحوار، وليس فرض الأمر الواقع. فثمة قناعة في نصفه الآخر دفعته إلى أن يصبح رجل المرحلة، وصافح اليد التي كان يريد ورفاقه أن يقطعوها إلى الأبد. ففي خلاصة أي معركة تصبح المصافحة انتصارا على الذات والأوهام، حتى وأن تبقى مجرد مصافحة لا تعيد الأيادي إلى تلمس الزناد/ فلا الحسن الثاني أنهى خصومه ولا هؤلاء أرغموه على الإذعان، ولكنها فرصة أخرى لم تكن قابلة للضياع هذه المرة. سيكون اليوسفي أول من يقطع شريط تدشين شارع بني يزناسن الذي تحول إلى شارع المهدي بن بركة، في الامتداد الأفقي لحي الرياض، فقد كان الراحل الهاشمي بناني تمنى مرات عديدة إطلاق اسم بن بركة على شارع في الرباط، مسقط رأسه، إلا أن التطورات السياسية أرجأت ذلك إلى حين تولي رفيقه عبد الرحمن اليوسفي منصب الوزير الأول، وكما في تقاطع الأحداث فقد تقاطعت أسماء قيادات حزبية، أمثال علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة في فضاء واحد، بعد غيابهم جميعا. ويحسب لحكومة اليوسفي أنها أول من حرك دعوى قضائية ضد مجهول في ملف بن بركة، على إثر التصريحات التي صدرت عن العميل السابق في جهاز “الكاب واحد” أحمد البخاري الذي اتهم المخابرات المغربية بالضلوع في مقتل بن بركة وتذويب جثمانه في حامض أسيد في معتقل دار المقري الرهيب. فيما كان اليوسفي جرب حظه مرات عديدة في حض الفرنسيين على المساعدة في إماطة اللثام عن الوثائق السرية في الملف التي لم يكشف بعد عن كل تفاصيلها. بل يحسب لليوسفي ذاته أن حكومة الوحدة الوطنية التي كان يسعى الحسن الثاني إلى تشكيلها بمشاركة أستاذه في الرياضيات المهدي بن بركة في عام 1965، على خلفية القلاقل المدنية التي كانت اندلعت في الدارالبيضاء وغيرها. ستظل عالقة في ذهنه بمثابة دين له أبعاد وطنية. وإن كانت تلك الحكومة تشكلت بوجوده ملامح أخرى في ربيع 1998. بعد أن اختلفت معطيات وجرت مياه كثيرة تحت الجسر. وساعد الحسن الثاني في إنجاز تلك المهمة أنه وجد في عبد الرحمان اليوسفي الشريك الذي أدرك تداعيات التحولات الدولية وانعكاساتها الإقليمية والمحلية، لكن ضمن الحفاظ على ماء الوجه الذي أبقى على صورة اليوسفي مناضلا وصاحب رؤية ورجل دولة. فهو لم يكن بوعبيد الذي لم يمانع في أن يصبح وزير دولة ضمن ترتيبات الإعداد لانتخابات لم تكن نزيهة كما توقع. وهو لم يكن عبد الله إبراهيم الذي كان أول رئيس وزراء وجهته مناورات المرحلة، ولم يكن مستعدا له، وهو لم يكن بن بركة الذي انتظر سقوط القطاف وسقط مضرجا في الدماء. لكنه كان أشبه بالرائد الذي يكشف مسالك الطرق بين كثبان الرمال، وسار على هديها قبل أن يضطر إلى التوقف أمام أول واحة وصفها بالاعتزال القسري الذي يذهب المرء نحوه مفتوح العينين. بمرارة سيرد الفقيه محمد البصري عن سؤال صحفي حول رأيه في حكومة التناوب وصديقه عبد الرحمان اليوسفي. حدث ذلك في صيف أراد نشطاء مغاربة أن يفكوا الحصار المضروب على ليبيا. قال البصري إنه ينأى بنفسه عن الحديث عن شؤون مغربية خارج الوطن، وحين ألح الصحفي أجابه قائلا: “إن اليوسفي وجد ليكون وزيرا أول ولا أظن أنه سيغادر منصبه بمحض إرادته”. غورباتشوف الاتحاد غير أن وقائع دالة ستشير إلى أن اليوسفي كان غورباتشوف الاتحاد الاشتراكي، فقد دعا أكثر من غيره إلى ممارسة أقصى درجات النقد الذاتي، وهيأ الظروف الملائمة لانتقاله من المعارضة إلى تحمل المسؤولية الحكومية. عدا أنه أفسح المجال أمام الغاضبين في صفوف النقابة والشبيبة لتجريب التجوال في أرض الله الواسعة. وربما غاب عنه أن بين مؤتمر وآخر سيصبح الاتحاد الاشتراكي هو نفسه، خصوصا حين أعوزته آلياته الضارية التي كانت النقابة والشبيبة جزءا منها، لا ينفصل عن عرض العضلات خلال فترات المواجهات. ولعله كان يريد حزبا آخر ينتسخه من ثنايا تجارب غربية تراهن على التداول الديمقراطي وليس تناوب الاحتجاج والغضب، لذلك فقد ظل يغضب على نفسه ويعاتب رفاقه قبل أن ينأى باللوم على الآخرين، وتلك شيمة نادرة في الأخلاق السياسية. سيغادر اليوسفي المغرب في اتجاه “كان” احتجاجا على الخروقات التي شابت الانتخابات. لكن اختياره لم يكن موجها ضد تلك الخروقات فقط، من منطلق أن هناك وسائل أخرى للاحتجاج. وإنما اعتبر رسالة لأطراف متعددة. وحين اعتلى محمد اليازغي الواجهة إلى جانب محمد بوستة وعلي يعتة ومحمد بن سعيد آيت يدر، كان قطار التناوب أقلع من دون ركاب. فقد رسا في اللحظة التي غادر فيها اليوسفي إلى منتجع “كان”. وترك منتظريه يلعبون في أشواط إضافية ضائعة، كان من بين معالمها أنة علي يعتة غرد خارج سرب “الكتلة الديمقراطية” كما أن آيت يدر أغلق على نفسه الباب بعد رفضه التصويت لفائدة الدستور المعدل لعام 1996. كان الراحل عبد الرحيم بوعبيد يردد حين يغضب أنه الاتحاد الاشتراكي. وأن الاتحاد الاشتراكي هو بوعبيد. وفات رفاقه إدراك دلالات غضبه يوم كان يرغب أن يتقدم خطوات إلى الأمام. غير أن اليوسفي اقتبس منه طريقة ذكية للغضب الذي حوله إلى قوة لا تضعف الآخرين. فقد ظل محاميا في مرافعاته الحزبية يتمعن في الفصول والوقائع ولا يتكلم إلا إذا كان اقتنص الثغرات جيدا. غير أن عودة اليوسفي من منفاه الاختياري هذه المرة، سترتبط بتطورات سياسية هامة، ليس أقلها صدور عفو ملكي عن معتقلين ومنفيين. كان في مقدمتهم رفيق دربه الفقيه محمد البصري الذي لم يكن لعودته أن تتم دون تداعيات، انفجرت على مستوى التعاطي معها في صحافة الحزب التي آلت إلى إدارة اليوسفي. فيما لم تتجاوز إدارة اليازغي أكثر من 48 ساعة في سابقة مثيرة، عكست صراعات أجنحة وتيارات، قبل أن يعاود اليوسفي الإمساك بزمام الأمور التي انفلتت من سيطرته. حين سئل المستشار أحمد رضا غديرة يوما عن السبب الذي جعله يدبج بيانا ناريا حول فشل مشاورات التناوب. رد بالقول أن التناوب مع اليوسفي لن يكون في طعم الطبعة التي لم تكتمل مع زعيم حزب الاستقلال محمد بوستة. وحين سأل صحفي فرنسي وزير الداخلية الأسبق ادريس البصري عن دلالات حكومة التناوب. أسر له القول: “هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها التناوب، فقد قاد الاتحادي عبد الله ابراهيم حكومة تناوب. لكن ما العمل والناس تنسى التجارب”. ثم أمعن بالقول: “سترى أن التناوب مع اليوسفي سيكون مختلفا” ولعله بسبب هذا الفهم حافظ البصري على علاقاته مع اليوسفي بعد عزله عن أم الوزارات، فيما لم يمانع اليوسفي أن يقدم له كأس شاي في مقر إقامته في الرباط، بعد أن لم يكن أحد يقدر أن يمد له يده. وفيما كان رفاق الراحل ادريس بنزكري يضيئون الشموع لاستنكار حدث تكريم البصري. كان اليوسفي ينسج فصلا آخر في علاقاته مع الرجل الذي أثير حوله لغط كبير لإفشال طبعة لم تكتمل من مشروع تناوب أجهض في المهد. رسالة الفقيه البصري سيكون لافتا أن اليوسفي الذي جرب معنى حجز صحافة حزبه خلال فترة الاختطاف السياسي التي اتسمت بتصعيد المواجهة في النظام، هو نفسه الذي سيقدم من موقعه كوزير أول على إيقاف مجموعة من الأسبوعيات دفعة واحدة، على خلفية الرسالة التي نسبت إلى الفقيه محمد البصري، والتي عرضت إلى تورط قياديين في الاتحاد الوطني إلى جانب الجنرال محمد أوفقير. وقتذاك، كان اليوسفي يقيم الأشياء بمنطق المسؤولية التي طوق بها. ومع إدراكه أن قضية بهذا الحجم لا يمكن أن تمر بسهولة. فقد غامر باتخاذ القرار الذي رآه ملائما. ولم يدر في خلد أحد آنذاك أن الرجل كان يعرف جيدا أنه يمشي في حقل ألغام، حتى لو انفجرت شظاياه لتلويث تاريخه النضالي، فثمة فرق يفصل بين الثورة والدولة وبين الحلم والواقع. ولعله ترك بصماته إزاء هذه القضية تحديدا للتأمل في ما تفعله التجارب بالقلوب والعقول. اندفع رجال الأمن نحو مبنى الإذاعة والتلفزيون يسألون عن المسؤول في غرفة الأخبار. وقتها كان الصحفي المخضرم الصقلي يشرف على نشرة الأخبار. سألوه عمن يكون الرجل الغامض الذي يضع نظارة سوداء على عينيه ويقف خلف الصف الأمامي في مؤتمر استضافته جنيف. أجاب بالنفي قبل أن يدقق في الصورة. وحين أدرك أنها لعبد الرحمان اليوسفي وأن عقابا ما ينتظر الموظف الذي وظب الشريط تحمل مسؤوليته وقال: “عرفته وأنا من اختار ذلك الشريط. ودفع ثمن خطأ لم يرتكبه في فترة يميزها تصيد الأخطاء. ولم يكتب للصقلي أن يعاين تجارب التاريخ، بعد أن أصبحت صورة عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول تكتسح الشاشة. بعد ثماني سنوات على صدور بيان رسمي، كان وعد اليوسفي بمهمة رفيعة المستوى، خرج الرجل عن صمته واختار مناسبة تأبين المفكر محمد عابد الجابري للقول بأن أفضل تكريم له هو السير على طريق مشروعه الفكري “لتنتقل من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث”، غير أنها المرة الأولى التي أقر فيها اليوسفي ب”عبثية الحياة” وهو يتحدث عن إحساسه العميق بالحزن والأسى حيال رحيل الجابري. فهل تراه كان يفعل ذلك استخلاصا لتجربة أم أن هول اللحظة كان وقعه كبيرا على نفسه. لقد فارق كثيرا من الرجال في بداية الطريق ومنتصفها. في انحداراتها ومنعرجاتها وهبوطها وصعودها. لكنه ظل واقفا مثل شجرة لا تهزها الريح، تلقى خبر اختطاف المهدي بن بركة الزعيم التاريخي للاتحاد الوطني، وكان في مقدمة محاميه في قضية زادتها السنون غموضا واضطرابا. وتلقى خبر رحيل عبد الرحيم بوعبيد، ثم ناب عنه في تدبير شؤون الحزب، وصدمته وفاته رفيقه الفقيه محمد البصري، فتناثرت حولها شظايا ما تبقى من تجربة فريدة.