هناك علامات فارقة في تاريخ الأمم، تبدأ معها عمليات الصعود أو السقوط. وكما كان الحادي عشر من شتنبر من العام 2001 علامةً فارقة في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث بدأت معه طريقَها نحو الهاوية، عبر التورط في حرب أفغانستان والعراق والإنفاق العسكري الهائل، ثم الأزمة الاقتصادية العالمية وغيرها من التوابع الأخرى، فإن حرب يوليوز -تموز- من العام 2006، بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، كانت علامة فارقة في تاريخ الدولة اليهودية، التي قامت على الاغتصاب والعدوان الدائم على حقوق الفلسطينيين والعرب. ففشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من وراء هذه الحرب وبقاء ثلث سكانها في الملاجئ، لأيام عديدة، أفشلا المخطط الإسرائيلي وكشفا عدم وجود عمق استراتيجي لدى إسرائيل أو قدرة على حماية سكانها أو مقدرة على تحمل حرب طويلة. كما أثبتا أن الدولة التي تمتلك الأسلحة النووية ليست بالضرورة الأقوى أو الأقدرَ على تحقيق ما تريد من انتصارات في الحروب التي تشنها. وقد حاولت إسرائيل أن تحقق أي نجاح عسكري يقيها عثرتَها ويعيد إليها مكانتها، التي تدهورت عالميا، فبحثت عن ركن تصورت أنه ضعيف هو الفلسطينيون المحاصَرون في قطاع غزة، فشنت عليهم حربا في دجنبر 2008 ويناير 2009، اعتقدت أنها سوف تجني ثمار نصرها، خلال ساعات أو أيام، لكن النتائج، بعد أكثر من ثلاثة أسابيع، جاءت لتثبت أن الدولة اليهودية أضعفُ بكثير مما تصور نفسها، حيث عجزت، بكل ما تملك، عن تحقيق أي من أهدافها في حربها على غزة، ثم جاء تقرير غولدستون ليضع إسرائيل في حرج دولي بالغ وغير مسبوق مع الأممالمتحدة والمجتمع الدولي، ثم قام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بمواجهة شيمون بيريز، بل صفعه صفعة سياسية قوية في «منتدي دافوس» الاقتصادي العالمي، أمام أنظار ومسامع العالم أجمع.. وقد أظهرت هذه الصفعة عدوا جديدا لإسرائيل، لم يكن في حسبانها على الإطلاق، هو تركيا، التي تميزت بعلاقات خاصة واسعة وعميقة ومميَّزة مع الدولة اليهودية، منذ قيامها، شملت تعاونا عسكريا واقتصاديا واسعا، فإذا بصفعة أردوغان لبيريز تهز الكيان الإسرائيلي كله وتُفقِد إسرائيلَ توازنَها، وكأنها أُخذت على حين غرة في معركة غير متوقَّعة، حيث تغيرت معادلات وموازين وعلاقات إسرائيل بتركيا، بل وبدول المنطقة.. وبدأت خسائر إسرائيل تتوالي مع تزايد التعاطف الدولي مع سكان غزة وارتفاع حدة الانتقادات لإسرائيل. ومثلت قوافل «سفن الحرية» الثمانية، والتي تُوِّجت بالقافلة التركية، ذروةَ الإحراج الدولي لإسرائيل، ثم جاء خطأ إسرائيل الأكبر، حينما هاجمت السفينة «مرمرة» في المياه الدولية وقتلت تسعة من الناشطين الأتراك، لتكتسب بذلك عداوة الشعب التركي كلِّه، فالشعب التركي لديه عصبية كبيرة وعداوة لكل من ينال من تركيا أو من أي تركيّ، وهذه هي المرة الأولي، منذ قيام إسرائيل، التي تسيل فيها دماء تركية من أجل فلسطين بهذا الشكل وبهذه الطريقة، التي أحيت في نفوس الأتراك مسئوليتهم التاريخية تجاه فلسطين، والتي حاول السلطان عبد الحميد أن يحول بين اليهود وبين سيطرتهم على فلسطين ودفع ثمنا باهظا مقابل ذلك.. لقد أحيت إسرائيل، بتصرفها الإجرامي الأرعن، كلَّ مشاعر الأتراك المُحبَّة تجاه فلسطين وكلَّ مشاعر العداء المدفونة تجاه إسرائيل. وكما هدد أكثر من مسؤول تركي، وعلى رأسهم الرئيس عبد الله غول، فإن إسرائيل سوف تدفع ثمنا لفعلتها أكبرَ بكثير مما يمكن أن يتوقع زعماؤها.. وكما قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، فإن تركيا قوية في عداوتها كما هي قوية في صداقتها.. وأعلن أردوغان أن الأتراك لن يتخلَّوا عن غزة ولن يتخلَّوا عن القدس. أما نائب رئيس الوزراء، بولنت أرينغ، فقد أعلن أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل قد تتراجع إل أدنى معدلاتها، وهذه العبارات تحمل تهديدا لإسرائيل لم يستوعبه، حتى الآن، قادتُها الذين يتحركون بعمى يتغافلون معه التغيرات الدولية الكبيرة التي بدأت تواجههم والخسائر الفادحة التي سوف تلحق بهم، جراء خسارتهم لتركيا وعلاقتها المميزة معهم. أما على الصعيد الدولي، فقد خسرت إسرائيل كثيرا، على كافة المستويات، خلال الفترة الماضية، ففي بريطانيا أعلنت عدة جامعات بريطانية أنها سوف تقاطع الجامعات الإسرائيلية أكاديميا، وقد فعلت.. كما أعلنت رابطة عمال السفن في النرويج أن العمال لن يخدموا أي سفن إسرائيلية ترسو في موانئهم.. كما طالب الأمين العام للأمم المتحدة بفك الحصار عن غزة، وأصدرت لجنة حقوق الإنسان في الأممالمتحدة قرارا لم تُصْدِره من قبلُ، تحت الضغط الدولي، أدانت فيه إسرائيلَ واعتبرت حصارَها لغزة غيرَ قانوني. كما أن عشرات الكتاب الذين لم يكونوا يجرؤون على انتقاد إسرائيل من قبلُ، أصبحوا ينتقدوها الآن، وبشده، في الصحافة العالمية، بل صدرت دراسات وكتابات، كانت تُعتبَر «محرَّمة» قبل سنوات، تتناول التعصبَ الأمريكيَّ والأوربي الأعمى لإسرائيل، صدر بعضها عن جامعات وأساتذة جامعيين مرموقين لهم مكانتهم العالمية، مما يعني سقوط «جدار الخوف»، الذي كان يمنع الكثيرين من انتقاد إسرائيل من قبلُ.. عشرات المظاهرات تجوب عواصم العالم، وعلى رأسها واشنطن ولندن وباريس، شارك فيها متضامنون من كل المِلَل والنِّحَل، كلُّهم يطالبون بالحرية لغزة وينتقدون إسرائيل. إن ما تعيشه إسرائيل اليوم ليس سوى خطوات في طريق سقوطها، الذي قد يطول أو يقصر، حسب المعطيات الداخلية والخارجية والدولية، والأهم منها العربية، فإسرائيل لم تقم، من البداية، ولم تَستأسِدْ إلا بسبب الضعف والخيانة في صفوف الحكام العرب، الذين يقوم بعضهم الآن بخدمة ِإسرائيل وأهدافها، بشكل مباشر، ويشارك في كافة مخططاتها، بما فيها حصار الفلسطينيين في غزة، ومن ثم فإن تغير الموقف الرسمي والشعبي العربي سوف يلعب دورا رئيسيا في مستقبل إسرائيلَ ومشاريعها في الفترة القادمة، فعواملُ السقوط وأسبابُه ومعطياتُه بدأت إسرائيلُ تعيشها منذ سنوات، وهي تتفاقم وتزداد، يوما بعد يوم، لكنها لن تؤتي ثمارها إلا إذا وُجِد من يعمل على إنضاجها، ثم يجني ثمارَها، وبالتالي فقد يتطلب هذا الأمر سنواتٍ وربما عقوداً وربما يكون قريبا!...