في صيف 2006، وفي عزّ المواجهة المشرفة لحزب الله في لبنان للجيش الإسرائيلي، وتلقينه درسا لم ولن ينساه، خرجت بعض الأصوات، في هذا البلد وفي العالم العربي، لتتحدث عن مسؤولية هذه «الميليشيا الشيعية»، التابعة لإيران والمستهدِفة ل»أهل السنة»، في تدمير البنيات التحتية وفي ضرب الموسم السياحي الواعد. ووصل الأمر بالبعض، بينهم وزراء ونواب، إلى التمني الضمني لانتصار سريع لجيش الكيان الصهيوني على رمز المقاومة اللبنانية الذي سبق له، وباعتراف الجميع، إخراج المحتل الإسرائيلي بالقوة من الأراضي اللبنانية عام 2000. وكان من نتيجة هذه المواجهة أن لعق الإسرائيليون، شعبا وحكومة وجيشا، طعم الهزيمة والمهانة، وبدأ معها عصر جديد في منطقة الشرق الأوسط يفرض نفسه، ويفرض معه معادلة توازن الرعب بين الدولة «العظمى» في المنطقة وجيشها الذي «لا يقهر» من جهة، وبين «فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى»، «صدق الله العظيم». فخلال عودتي من لندن يوم الثلاثاء الماضي، صادف وجودي في الطائرة إلى جانب مواطِنَين عربيين، الأول من المشرق والثاني من منطقة المغرب. وكان الحديث بالطبع عن «أسطول الحرية» وما نتج عن مهاجمته من قبل فرق الكومندوس التابعة للبحرية الإسرائيلية. وفوجئت بمنطق الاثنين الذي اعتبر أن تنظيم هذه العملية كان خاطئا من أساسه، واستفزازيا، وأنه كان من منطق الأمور أن تكون النتيجة على هذا النحو، كما علينا، نحن العرب والمسلمين، أن نتعلم من دروس الماضي وأن يكتفي أهل غزة بالمساعدات التي تصلهم من الأونروا أو من خلال فتح المعابر من قبل إسرائيل، بدل أن يُعَرِّض قادة حماس أرواح الناس للخطر، كما حصل خلال حصار غزة أمس، واليوم مع «أسطول الحرية». حاولت، عبثا، أن أشرح بهدوء «للغولدن بوي» المشرقي ولزميله المغاربي «الفهيم» في المضاربات العقارية، أبعاد النوايا الإسرائيلية العدوانية، التي لا تنتظر أسطول الحرية أو غيره لتبيان غطرستها. كذلك الإثبات، بالملموس، أنها دولة مارقة، لا تلتزم بالقرارات الدولية ولا بمواثيق الأممالمتحدة وحقوق الإنسان. عندها، اعتمدت أسلوبا آخر في محاولة إقناع هذين المخلوقين -اللذين يعيشان في دائرة مغلقة لا تتعدى جني المال اللندني بالنسبة إلى الأول، والمباني والشقق بالنسبة إلى الثاني- بهذه الحقيقة. قلت لهما عندئذ إنه عليهما «من الآن فصاعدا» أن يدركا أن «عصر المقاومة» قد بدأ، ولن يتوقف عند حدود «أسطول الحرية» أو غيره، لكنه سيتخذ أشكالا أخرى من الصمود والتصدي والتحدي، مدعوما بحركة الشعوب العربية والإسلامية التي لن تتوقف، وأنه لن يُسمح، بعد الآن، للكيان الصهيوني بتوجيه ضربات إلى العزل والأبرياء دون محاسبة فورية، ليس فقط من قبل مجلس الأمن الذي ترمي إسرائيل بقراراته، التي ناهزت المائتين، في سلة المهملات، بل من قبل هذه الشعوب. وستكون المحاسبة قاسية من نوع العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. وعندما أتممت حديثي، لاحظت حالة من الوجوم والقلق في عينيهما ترافقها علامات تعجب ظهرت على وجهيهما، وتساؤل يؤكد أنهما لم يستوعبا شيئا مما قلته. عندها، لم أجد بدا إلا الخروج عن اللياقة والقول لأحدهما: «إنه عصر المقاومة يا غبي، وليس عصر اقتصاد السوق!!». اليوم، هنالك معطيات بدأت تفرض نفسها على الواقع، لا تتطلب تفسيرات ولا فلسفات عقائدية. فدخول تركيا أردوغان على الخط، وبهذا العنفوان المشهود، أربك الدول العربية إلى حد أنه دفع بالبرلمان الكويتي إلى الدعوة إلى الانسحاب من مبادرة السلام العربية التي طرحت بالإجماع في القمة العربية، التي عقدت في بيروت منذ عدة سنوات، كما فرضت على مصر أن تفتح معبر رفح ولو مؤقتا الذي ساهم في تشديد الحصار على غزة. على أية حال، فإن الأمر لن يقف عند هذا الحد، بالرغم من صدور بيان خجول من قبل مجلس الأمن، الذي انعقد لأول مرة بصورة فورية بعد الاعتداء على أسطول الحرية، وطلب فتح تحقيق جدي وسريع. كذلك الأمر بالنسبة إلى مجلس حلف الناتو، الذي اجتمع هو الآخر لأول مرة، بناء على دعوة تركية عاجلة. الأمور تتغير، إذن، بالنسبة إلى إسرائيل وسطوتها. كل ذلك بفعل توسع رقعة المقاومة بكافة أشكالها، مما يذكرنا ببداية نهاية نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. هذا ما تدركه إسرائيل ويدركه قادتها ومثقفوها، بالرغم من عدم الاعتراف بذلك. فكما أن حرب لبنان في صيف 2006 قد هزت أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وأدت إلى سقوط العديد من رؤوسها، فإن المقاومة المدنية عبر أسطول الحرية يمكن أن تسقط وزراء، من بينهم وزير الدفاع إيهود باراك الذي بدأت أوساط فاعلة في إسرائيل تطالب بتحميله مسؤولية هذا الفشل الذريع، مما سيمهد لصراع سياسي حاد في الأسابيع والأشهر المقبلة، ربما يكون من نتائجه القيام بعملية هروب إلى الأمام تحاول فيها إسرائيل الاعتداء على سوريا أو لبنان، حتى ولو كانت هذه العملية غير مضمونة عسكريا. المحصلة لن تكون هذه المرة هزيمة عادية، بل ستكون معركة ربما تغير وجه الشرق الأوسط. ذلك لأنه، وببساطة، «هذا هو عصر المقاومة يا غبي».