اصطلح عديد من المعلقين على تسمية ما أحدثه ظهور الدكتور البرادعي على مسرح السياسة المصرية ب«تحريك المياه الراكدة».. وبالفعل، فقد تحركت المياه عندما أتى على نحو يقرب من الفوران.. أربك هذا دوائر الحكم فلم تجد في يدها سوى سلاح الشتائم والأكاذيب المفضوحة التي زادت من غليان المياه، وزادت من التفاف الجموع حول تيار التغيير وحول شخص البرادعي ذاته.. الآن بعد هذه الانطلاقة الكاسحة، لا بد أن الكل يلاحظ أن البركان قد خمدت حدته، والمياه عادت إلى ما يشبه الركود.. صحيح أن أخبار الدكتور البرادعي لا تزال تتصدر كل الصحف، لكنها لا تنقل إلينا في معظمها سوى مقالات في صحف أجنبية وتعليقات على هذه المقالات، أما حركة الدكتور البرادعي ذاته فلا نكاد نقرأ عنها شيئا إلا إذا بعث برسائله السابحة في فضاء الأنترنيت، كما أننا لم نعد نسمع بفعل مؤثر يمكن أن ينسب إلى الجمعية الوطنية للتغيير.. بعد استقبال البرادعي المثير في المطار، ثم لفتة صلاته في الحسين وزيارته للكاثدرائية المرقسية التي تلتها مسيرة مبهرة في المنصورة، هدأت الساحة في مصر مرة أخرى إلا من وقفة احتجاج هنا ووقفة هناك وبعض ردود فعل محدودة لاعتقال أنصار الجمعية في الإسكندريةوالقاهرة والبحيرة.. وربما كانت الأصداء في الخارج أكبر من الفعل ذاته في الداخل، إذ قامت فروع للجمعية في قطر وبريطانيا والولاياتالمتحدة وكندا، ونشطت معها الدعوة إلى حق المصريين المقيمين بالخارج للتصويت في الانتخابات.. إلا أن حركة الخارج أيضا أصيبت بنكسات، لعل أهمها طرد مناصري التغيير من الكويت، والاتهامات الظالمة للاستقواء بالخارج التي لحقت بالجمعية وبالدكتور البرادعي ذاته أثناء زيارتهم الأخيرة للولايات المتحدة. لم أكن أود للدكتور البرادعي أن تكون زيارته الأولى بعد عودته إلى مصر هي تلك الزيارة لأمريكا، مهما كانت الدقة في تنظيم برنامجه الذي اقتصر على محاضرة في جامعة هارفارد، ومهما كان الحرص في انتقاء الكلمات الموجهة إلى الصحافة أو إلى المصريين الذين التقاهم.. نعلم سلفا كيف كان المعادون للبرادعي متربصين به، ولا يزالون، وكيف كانوا سيتصيدون كلمة هنا أو حركة هناك.. وهذا ما حدث، إذ اختلق هؤلاء تقارير صحفية كاذبة تزعم أنه استعدى الولاياتالمتحدة ضد مصر، وراجت هذه التقارير بالرغم من تكذيبها مرارا. في ما يتعلق بمشاركة أعضاء الجمعية الوطنية للتغيير في مؤتمر واشنطن الذي نظمته المنظمات المصرية في أمريكا بعد ذلك، كان هاجسي مختلفا.. كانت الدعوة قد وجهت إلي مع خمسة من أعضاء الجمعية لحضور المؤتمر، إلا أنني اعتذرت.. وجدت أن عدد المشاركين من القاهرة كاف بالنظر إلى وزنهم من ناحية، وكذلك لأن الدعوة إلى التغيير لا تحتاج إلى جهد كبير بين جالية مصرية رفيعة الثقافة والمكانة لا بد أنها حددت من قبل موقفها.. وكان في ظني أن حملا ثقيلا ينتظرنا هنا في مصر.. قلت هذا في اجتماع لنا ضم بعضا من المصريين الأمريكيين الذين كانوا في زيارة قصيرة للقاهرة، بينهم الدكتور خالد والدكتور الغوابي والدكتور الباجا، ودعوت إلى أن يكون التواصل بتبادل زيارات بين الجانبين بدلا من التوجه دائما إلى الولاياتالمتحدة، واقترحت أن يعقد المؤتمر القادم للمصريين الأمريكيين في مصر.. حدث ما حدث إثر مؤتمر واشنطن، فقد انطلقت حملة تتهم بعض أعضاء الوفد بالاستقواء بالخارج، لا أظن أن لها ما يبررها، خاصة أن نتائج الحملة كانت أشد وطأة من الاتهامات التي أثارتها، إذ أحدثت شرخا بين القوى الوطنية وداخل الجمعية الوطنية للتغيير ذاتها لا بد أنه سيأخذ وقتا وجهدا حتى يلتئم، ومن المؤكد أنه سيمثل عبئا على الدكتور البرادعي وعلى الجمعية، وكلاهما ليس في أفضل حالاته. الكل يعلم الآن أن الحال ليس على ما يرام، ومن الممكن أن يحاول البعض التغطية على كثير من أسباب ذلك، إلا أن هناك سببا لا يمكن إخفاؤه بعد أن كتبت معظم الأقلام عنه، هو التجول الدائم للدكتور البرادعي خارج البلاد الذي لا يستطيع أحد تبريره إلى حد أن المنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير الدكتور حسن نافعة كتب في «المصري اليوم» يقول إن هناك «أوجها عديدة للنقد المبرر للجمعية، في مقدمتها تغيب الدكتور البرادعي لفترات طويلة خارج الوطن».. يعكس هذا، على نحو واضح، القلق السائد في تيار التغيير، وربما الإحباط في صفوف الشباب، عماد التيار، من عدم وجود رمز الحركة في أرض «المعركة»، وعدم التواصل بينه وبين أنصاره، حتى أولئك الذين يظن أنهم قريبو ن منه. وقد أدى هذا الغياب - ضمن أسباب أخرى - إلى تناقص عدد الموقعين على بيان «معا سنغير» الذي يتضمن مطالب الجمعية السابقة، فبعد أن كان عددهم يصل إلى أكثر من ألف كل يوم بعد حضور البرادعي إلى القاهرة تناقص هذا العدد الآن إلى ما يقرب من النصف. الدكتور البرادعي يقول إن لديه التزامات مسبقة منذ أن كان مديرا لوكالة الطاقة الذرية، كحضور مؤتمر أو إلقاء محاضرة، كما أنه ملتزم أيضا إزاء ناشر صارم بإنجاز كتاب عن تجربته في المعترك الدولي، ويقول إن اتصاله بأنصاره يمكن أن يتم بيسر وسرعة من خلال وسائل الاتصال الحديثة، ويقول إن العبء لا يجب أن يلقى عليه وحده.. لكن الذين يؤيدونه يقولون إن صفحة الماضي يجب أن تطوى الآن، وإن العالم يعلم بالتزامات البرادعي المستجدة إزاء وطنه، وإنه سيغفر له اعتذاره عن أي نشاط خارجه، ويقولون إن التواصل الإلكتروني لا يمكن أن يغني عن التواصل الإنساني المباشر، ويقولون إن حضور الرمز في المشهد أمر حيوي حتى وإن كانوا لا يؤمنون بنظرية الزعيم الفرد الملهم. في كل حال، ها هو الدكتور البرادعي قد أتى إلى مصر منذ أسبوع، فما حاجتنا إلى هذا الجدل، هذا ما يردده بعض المريدين الآن، لكن الذي لا يعلمه كثيرون أنه لن يبقى سوى عشرة أيام أخرى يسافر بعدها إلى لندن.. والأكثر إثارة للدهشة أنه سيظل في الخارج حتى سبتمبر.. الذين اطلعوا على الأمر في الدائرة المحيطة بالبرادعي أبدوا انزعاجهم واعتراضهم، إلا أن ذلك لم يفلح في ثنيه عن خطته.. ومن المقرر أن يكونوا قد عقدوا أمس (الأحد 30 يونيو) اجتماعا معه لمراجعته مرة أخرى أو أخيرة، إلا أنني أظن جازما - استنادا إلى ما نقل عنه أنه لن يستجيب.. لهذا أكتب اليوم.. هدفي الأول هو استنهاض كل من يرغب في التغيير أن يناشد الدكتور البرادعي البقاء بيننا، أما الهدف الثاني فهو مطالبة الدكتور البرادعي - رغم معرفتي بكتمانه الشديد وحذره البالغ - بأن يفصح عن نواياه لأنصاره قبل غيرهم: إلى أي مدى يريد أن تستمر المسيرة؟ تحريك المياه الراكدة فحسب أم تحويلها إلى طوفان؟